شعرية الطبيعة في ديوان - أجيئك محترسًا من نبضي



د. محمود الشلبي

ديوان " أجيئك محترساً من نبضي " :

 

إن واقع التجربة الشعرية الحديثة، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بما تختزله الذاكرة، من جوانب معرفية ، فهي لا تقوم إلا على أساس المزاوجة بين النطفة الأولى للقول ، وبين حراكها المستقبلي ، عبر مرورها بالذات الكلية الحاضنة لهذا الارتباط .

  ومن واقع محاكاة التجربة الإنسانية، في أقصى إمكاناتها المادية والنفسية ، نجد أن الشعر هو عماد المرونة التي تتصل به ، لغايات طرح الأسئلة ، وعدم الوقوف على الإجابة .

   ولا يمكن للأسئلة أن تقدم مشروعها اللدني ، إلا عبر طوافها حول أنماط السلوك المعرفي في مفردات الطبيعة. 

   كما أن المواءمة بين مخزون الطبيعة، وبين قراءتها ،ما نسميه شعرية الطبيعة، ما يمكن للنصّ من العيش في أزمنة وأمكنة مختلفة في لحظة واحدة ، لحظة مقروءة ، وليست عابرة .

   في إطار هذا التوصيف المختزل ، سنحاول قراءة شعرية الطبيعة ، في ديوان " أجيئك محترساً من نبضي " للشاعر محمود الشلبي .

   تنفتح الذاكرة على واقعين في التعامل مع الطبيعة ، يتمرّد كلٌّ منهما على الآخر ، في محاولة لرفد اللغة بإثنيّات تبادلية ، واقع محكوم في مرآة ما ترسمه اللغة من معاني ، وما تنتجه من أخيلة ، وواقع محكوم بانعكاس ما ترسمه اللغة من أخيلة ، وما تنتجه من معاني ، كما في المقطع الشعري التالي :

" سطور من الذكريات القديمة

أطياف أغنية في الوريد

ظلال تغلّف نفسي

فأنزع من ساحل العمر قهر العذاب

وأدخل بوابة الغور منفطر القلب

ذات مساء على موجة من سراب

فيأسرني وجهك البدر بين الغمام "

   إن التفاوت واضح بين الواقعين ، ويحمل جوهراً صافياً لمواصلة حثّ الخطى للدخول في الجوانب المعرفية ، رغم سعة المساحة الفاصلة بينهما .

" ماذا أقول لنرجس العينين

للوجه الذي وهب الفتى نعناعه البيتيّ

للغة التي تزجي الندى بحروفها

وتضيء ذاكرة الجياد ؟

ماذا أقول لشمعدان حضورها

لسماء فضتها

لحنطة يومها

لنشيدها الغوريّ

للصوت الذي يخضرّ حلماً في شرايين الفؤاد "

   من الواضح أن ثمة قراءة متأنية لحضور الطبيعة في الوعي الشعري، لاستلهام جميع المحفّزات التي تقودها إلى خلخلة السائد ، لتصل بالمتلقي إلى شرفة البوح ، ومن ثمّ تفتح له باب الطريق ، لينتجع بكلّ مفرداته على بساط التأمل، يقودنا إلى إشباع الذات  .

" هذا المدى شباك ذاكرتي

فلا تدعي السماء لغير بلبلها

لأكتب ما أريد

وأقول : أنت كتاب هذي الأرض

والنبع المسافر .. في المزارع

واحتفال الكون بالأفكار

والوطن الجميل "

  يبدو أن مثل هذا الكشف عن محمول الذات من التذكر ، واحتفالها بالأفكار \ الجانب المعرفي المقيّد ، هو نتاج طواف الذاكرة حول مركزية النبع ،الطبيعة ،وأشكالها ، وعنفوانها، الذي يدخل في السياق الزمني ، كمنتج تأثيري قادر على الخصب والنمو .

" امنحيني فرصة الحنطة في الحقل

لكي أعرف نفسي

واقطفي زهرة نار الشعر

من يومي وأمسي

فإذا ما لحت كالنخلة

بين النهر والبحر

وشرّعت اليدين

وتصفحت كتاب العاشِقَينْ

أسكبيني كلمة في الشفتين

واقرأي مرآة روحي مرتين "

   إن موقف الطبيعة ،في طريقها لتأسيس حالة شعورية قابضة، على مدخلات الذات، موقف برمائي متذبذب ، لغايات مفارقة الذات وهي تعدو لتشكيل ما يمكن له أن يوسم بالدائرة النقلية ، فهي من جهة قابضة على الشعور ، ومن جهة أخرى هي مندغمة فيما وراءها ، لكونها المصعد الوحيد الذي تصعد من خلاله ذاكرة البوح.

" يباغتني الحلم

هذا العصيّ الشهيّ

فأرخي إليه العنان

أخلي إليه السبيلا

وأهمس باسم التي

لا تجيء

إلى أين نمضي ؟

وهذا انتظاري

أراه بذاكرة العمر

عبئاً ثقيلا

سأترك نبضي

يحطّم بيت الضلوع

ويزهر في الناس

لحناً جليلا "

  إن هذا النمط السلوكي للذات ،هو بداية تشكل الوعي الأول لشعرية الطبيعة، وهو المحرك الفاعل لجملة التحركات التي تسعى لفرض هيمنتها عل الواقع ، بعيداً عن مؤثرات الذات ، وما تختزله.

" نتهيأ للشمس في منطق الظلّ

عند الضحى

ننتقي سروة من زمان الطفولة

بين البيوت

ها هنا بلبل النهر

يسرد في لغة العشق

ما قد تعذر منا

ويسكت حين يريد السكوت "

   الحيز الذي تتركه الطبيعة مفتوحاً أمام شعريتها ، يضاف إلى ملكية المتلقي ، كونه يحمل ذاكرة مستقبلة ، قادرة في مجاورتها لشعرية طبيعة الشاعر وقدرته على التخيّل والسباحة في الشريط الخلفي للغة .

" أرى آية في الوجوه

أحاديث تهرب مني إليّ

أراجع ما طرزته الصبايا

على واجهات الغمام

أرى وطناً في القريب البعيد

أرى وجه أمي

أرى أصدقائي الكرام

فأقرأ سطراً من الشعر، فاتحة للهواء

وأترك نبض المدى في بريد الختام "

   من البين أن الإشارة إلى وقوع المعنى، في آخر السطر الشعري،يعدّ سمة بارزة في شعرية الطبيعة ، التي تأتي بأدوارها كلها ، بعيداً عن الإسقاطات الخلفية للصور ، حيث تبرز أهمية اللجوء إلى الأمكنة كمنجم احتوائي قابل لتكرار ما يحوي من مواد خام .



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x