شعرية الذاكرة في ديوان - قميص الحديقة

 


محمد العامري

ديوان" قميص الحديقة"


   إذا كان هدف الكتابة اكتشاف الذات ، وتسريع امتزاجها بالمحيط ومفاصل الحركة داخل أيقونة الكائن ، فإن ديوان " قميص الحديقة"  يستثمر العنوان للكشف عن الذات ومحيطها من غير فاصل مكاني أو زماني ، عبر جملة من التصوّرات التي يلحقها بشعرية الذاكرة القادرة على حمل المعطيات والمسمّيات دون حدود .

   إن ما يثيره عنوان الديوان ، وهو أوّل محطات الذاكرة ، من تراكمات مكانية وزمانية قادر على استنباط ما هو كائن  بين سلالة المسند الشعري الذي تتحقق فيه طاقة المعطيات ، وبين المسند إليه الذي تتحقق فيه حركة المسميات .

   وما بين المسند والمسند إليه تنبع أهمية شعرية الذاكرة ، فالقميص يشكل في نسيجه رؤية " قصّ " وهو سياق تذكري قادر على الولوج في حضرة المكان ، ورؤية " مقصّ " يفصّل في طريقة نسيجه حضوراً شعرياً يتمحور في مساحة زمنية مفادها استهلال الكتابة الشعرية ، وتتكىء على إعمال مبضع الشاعر الناقد لتكون معبدة للوصول إلى الشقّ الآخر " الحديقة " والتي تمثل المساحة المكانية ،  منذ التفحص الأول للذاكرة عبر " الحدقة " حتى إكمال دورانها الشعري في " القدح " واعتمادها على إمكانية تفجير الحواس ، واختصارها للمصير الذي تؤول إليه العملية الشعرية برمتها في حال عدم التوافق بين اختزالها واعتبارها مادة إشارة ، وبين انكشافها واعتبارها مادة حدس ، وانتهاء بوجودها ككائن مستنزف .

   وإذا كانت السباحة في شعرية الذاكرة، لغايات تفريغ المكان من مستلزماته الوجودية ، تحتاج إلى أوكسجين شعري ، فإن من الضرورة بمكان البحث عن مرآة ماضوية تستخدم ، لكي لا يكون هناك فاصل بين زمانين مختلفين يدوران في حلقة مكانية واحدة ، مبتداها ومنتهاها ضمير متحرك في دائرة مفتوحة على كل الاحتمالات والتأويلات.

"لم أعد كأبي

يصحو على وجع الحقل

ويشدّ ساعديه إلى الشجرة

لم أعد كأبي

أتمرّن في أثلام الأرض

أنا محض خراب

في الحزم الضوئية"

   هكذا تبدأ شعرية الذاكرة بقراءة المعطيات الفاصلة بين زمانين ، إذ أنها تأطر كلّ ما من شأنه أن يختزل الفكرة ، بإسنادها إلى حقل البياض إسناداً احتفالياً ، يوفر في مادته الأولى طاقة العزل، ليأخذ من مفردات البيئة الأولى المتعالقة بجوانية المكان ملهماً وحاضناً

" ولد ينبت كالأشجار

يداوي يديه باللمس

ويرسم قمصاناً مشجّرة

تسكب دمع الأكمام

على الأسلاك "

  وتنجلي المفردات التي يسحبها الشاعر من الحديقة عن سعي واضح وراء اقتناص ما يخدم شعرية الذاكرة كونها المتلقي الأول للنصّ ، عبر وسيلة الإحالة الأولى للمفردات التي تجتاح ذاكرة الذات ، وهي ترزح تحت وطأة ضراوة الغياب والحضور.

" نمرّ على البيت ليلاً

لنقطف منه بنفسجةً وحريرا

وأمي هي امرأة تعشق الزرع

تعطيه من دمها

قمراً وسحابا "

   هنا وفي هذا الاستقراء للمحتوى الدلالي للمكان، تظهر حاجة شعرية الذاكرة إلى البناء القصصي ، وهو يعرج نحو أقانيم الحديقة كمكان  والحديقة كذاكرة ، فالحديقة ومكوناتها هي من نتاج الخصب المتمثل بالأم ، والمتمثل بإعادة الزمن الماضي كذاكرة محمولة .

" ترتب أثوابها في الصناديق

ثم تعود إلى ليلها

وتحول سماء

تغطي بها جملة النوم

تصحو لتشعل ناراً لحنطتنا

وتنام على حجر الأرض "

   ومع هذا البناء القصصي ينمو إيقاع استرجاعي لصفة اختزال الصراخ الداخلي الموقوف على الذات ، وهو استهلال تفصيلي لجملة الحواس ، لإزاحة الغبار عن مفردات وعي الذاكرة القائم على الصوت ونقيضه .

" في الصباح الطري

رأيتُ قميصي يغبّر مرآته

في الجدار

ويسلم أشجاره لبكاء قديم

هناك

كان يصافحني بيدين مثلجتين

كأن القميص يموت

كأن الغياب كتاب لأزراره "

  إن هذا الوعي والانفتاح الشعري على الذاكرة ، يستكمل عملية بناء السرد بإيقاع محمول على مؤثر نفسي ، أكثر مما هو محمول على مؤثر شخصي ، بدلالة أنه يعاين أكثر من منطقة فضائية، بحثاً عن أفق تحليلي لأكثر الحالات استقطاباً للنفس البشرية القائمة على حنين التذكر ، في مواجهة غموض الغياب والذهاب إلى المفردات الأكثر وضوحاً ، لتحويل النصّ من معنى تحيط به جملة من الأسرار ، إلى نصّ محسوس يهيمن عليه ما يمكن تسميته " هيمنة الحواس " .

" شربت الظلام وحيداً

تذكّرت بيتي

وبيتي بلاد من الطين

تذكّرت عتمته في المرايا " 

   ومع هيمنة الحواس على المقطع الشعري في النصّ ، يجيء المنحى التصويري حاملاً أحداثاً تراقب تزاحم الأضداد في جريان الشك واليقين في شخصية الحديقة كمتناول شعري قادم من أعماق الذاكرة ، وهي تستردّ وعيها التام أمام مرآة الكائن، حيث انقلاب صورة المفردات يشكّل عاملاً حاسماً لتوسيع حلقة اللاوعي ، من هنا لا تستسلم شعرية الذاكرة لمادة القول ، لذلك كثيراً ما تعمد إلى إحياء فكرة القرين الخاص بكل مفردات الغياب في تحركاتها الصورية ، وهي تبني حالات خاصة يشكلها تشكيلاً متخيّلاً في موازاة حضور الواقع .

" كالحرير مضى النهر

صوب فرادته

وهو يحمل قمصانه الشجرية

 قيظاً

يواري شحوب مراياه

مستسلماً

لنداء قديم "

  ولإعطاء طاقة حرارية خاصة لهذه العلاقة بين الشاعر والحديقة تبدأ شعرية الذاكرة بالانتقال بين عالمين مختلفين ، عالم الغربة ، وعالم المرآة الكاشفة عن الذات وتفرّعاتها .

" سوف أذهب وحدي

إلى شجر العمر

وحدي سأذهب

للنهر

كي أغسل الماء بالجريان "

   وما بين هذين العالمين المختلفين ، ينعكس الشعور على الذات الباحثة عن معايير المطلق في هذه العلاقة التي لا تستسلم للفاصل المكاني ، لهذا تنفرج حدة الرؤيا عن ملازمات الحديقة ، وهي تستدرج النصّ باتجاه السؤال الكاشف : أين المفرّ بعد هذا الفراغ ؟

" معنا عند باب الحديقة

أوقفني وتكلّم

حياتك وَهمْ

غيابك موت وساقية

هنا تنتهي وتذوب

هنا يسقط الاسم والأصدقاء

وتبقى وحيداً

بلا هيئة أو كتاب

وتنسى "

   لهذا تقبض الذات على سنديانة مركباتها الكيميا شعرية ، عبر تفعيل جسد الغواية الشعري ، وتلمّ شتات الحديقة من ذاكرة منقّطة بالغياب ، لتجمعها في سلة العودة ، كما هو حال الحلم وتفاصيله في اجتراح صدى الموقف والعرفان والتصدي لفوضى الاغتراب بعد تأويله .

" بيتنا لم يزل يذكر النبع

يمشي على عشبه

والحديقة تحفظ زواره

بينما بابه لم يزل

يتهجّى ظهيرته ، ويئن "

  وبعد هذا التصدي لفوضى الاغتراب ، تأتي اللغة لتتماشى مع الإيقاع اليومي في ترتيب الحديقة ، لغايات تقصّي منازل الحياة في استنطاق ما يلوذ بالفراغ وعزلته ، وكل هذا يدور بسرعة خاطفة تجمع النقائض في سلة واحدة ، وإن كانت هذه السرعة هي مادة تثوير الكامن في اللغة والذاكرة معاً ، فإنه يعطيها مساحة للعروج إلى أكثر المناطق علوّا ، بحيث تشاهد القاسم المشترك بين الذات وداخلها وما وراءها .

" القرى المدهشة

فرغت من دخان الطوابين

من طينها المنحني في الظلال

بكت لفروع النوافذ

تاهت عن الحقل والمصطبة "

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x