شعرية اللقطة في ديوان - كتاب الأشياء والصمت

 


د. عبد الرحيم مراشدة

ديوان " كتاب الأشياء والصمت " :



   يتسم الفضاء البصري الذي يشتغل عليه الشاعر عبدالرحيم مراشدة ، في ديوانه " كتاب الأشياء والصمت " على مستوى الفعل الشعري الذي يقود العملية الكلامية برمتها ، بالقراءة الكيميائية للوشائج التي تربط بياض اللوحة بمدلولها الخطّي واللوني .

   وتقدم نصوص الشاعر في اندفاعها نحو التجريب من جهة المعنى والشكل ، لغة مشبعة تتحصن فيها الرؤيا ، لغايات التورية ، ومن جهة الفعالية الشعرية ، لغة فضفاضة  ولكنها مكثفة بامتياز .

   كما ويراهن النصّ ، وهو يتقدم ، على سعة المساحة البيضاء ، باعتبارها اللاقط الأول للحساسية الشعرية ، وإذا ما خلت هذه المساحة ، فإن النصّ كثيراً ما يلجأ لتوسعتها عبر أشكال الكتابة

" الحرف يسنّ سكاكينه

ويسير إلى مذبح الكلمات

هناك

يجزّ رقاب الأبيض

ويعد وليمته الطازجة أبداً

للمدعويين من القراء

اللعب يالكلمات صنعتنا

لذا :

سنغير اللغة التي تتكلمون "

   إن شعرية اللقطة تعترف بأهمية المراوغة والتغير ، اللذين يسعى النصّ الشعري إلى مقارعتهما ، حسب ما يحدثه المعنى من إرباك ، فهو وإن سعى إلى المراوغة والتغيير ، حتى في جملة الحركات التي تحدث في اللغة ، عبر سياقها الشعري ، فإنه يعي تماماً بأنه سوف يجد مواجهة من نوع مختلف لما يحدثه الانزياح .

" مهلاً

لغتكم هذي الأهرامات

سأنسفها

في جدر الورق

تقوم غابة الحروف

فمن بعد حين

يمرّ

ليجني القطوف "

   المراد بالمغايرة والمراوغة اللتين تسعى شعرية اللقطة لإحداثهما في جوهر العملية البنائية ، هو أن تهيّأ لهذا النصّ وفرة فورانه ولو بعد حين ، إذن هو إدراك واعٍ لحقيقة الاختلاف بين ما هو مقروء في سجلات الذات ، وبين ما هو مهموس في انزياحها للتجديد .

 

" أيتها الزهور

لا تبتسمي               يا للغرابة

أيتها النحلة              هذا البنفسج يمطر من رأسي

لا تبتهجي               يتناثر فوق تلال الصمت

مواسم الرماد

آتية "

   هذا الشكل الذي لا يسمح للبياض أن يسيطر على تربة النصّ ، ما هو إلا بياض مشارك على المستوى الفعل الشعري ، لحضوره بين الأسطر ، فالشاعر في تجربته لتعميق فضاء الأبيض ، يلجأ إلى استحداث لقطتين متوازيتين في المعنى الإشاري ، ومختلفتين في النهج القرائي ، فاللقطة الأولى تأخذ من مبتدا البياض مساحتها المقروءة ، فيما تأخذ اللقطة الثانية عمق البياض ، أما منتهى البياض فيتركه الشاعر للمتلقي ليهمس ، أو يجمع بين اللقطتين في لقطة واحدة ، لقطة لا تنطبع إلا على شبكة الذاكرة ، واختزالها للمعرفة .

" الشوكة في حلقي

والأزمنة السوداء

ستفر الروح لغايتها

وترافقه

الصرخات البيضاء "

  أليس هذا هو العمق الدلالي للبياض المتروك ، ألا نستطيع أن ننسخ هذا المقطع ، وهو في صفحة أخرى من صفحات الديوان ، ونضعه في عمق الأبيض المتروك في صفحة النص السابق ، كما يلي :

" أيتها الزهور

لا تبتسمي         يا للغرابة                      الشوكة في حلقي

أيتها النحلة        هذا البنفسج يمطر من رأسي   والأزمنة السوداء

لا تبتهجي         يتناثر فوق تلال الصمت     ستفر الروح لغايتها

مواسم الرماد                                   وترافقه

آتية "                                           الصرخات البيضاء

   إن هذا التشكيل الذي استحدثناه من نصين مختلفين ، هو دلالتنا على شعرية اللقطة ، فهي نقطة وسطية بين المعنى والظل ، إذ يتشكل المعنى من " أيتها الزهور لا تبتسمي ، أيتها النحلة لا تبتهجي ، مواسم الرماد آتية " ويتشكل ظلّ المعنى من " الشوكة في حلقي ، والأزمنة السوداء ، ستفر الروح لغايتها ، وترافقه الصرخات البيضاء " أما مراد المعنى فهي اللقطة الوسطية" يا للغرابة ، هذا البنفسج يمطر من رأسي ، يتناثر فوق تلال الصمت .

   بعد هذه المعاينة لنصين منفصلين ، نجد الشاعر لا يكتفي بهذا الرصد ، لأهمية اللقطة التي ينتجها تشابك المعنى والظل ، بل يحاول في مرتبة أخرى إلى معاينتها دفعة واحدة ، ليترك للمساحة البيضاء حريتها في الحركة ، كما هو في نص " تنفس " الذي يتشكل من سطرين فقط ، " اللقطة " ، فيما أخفى الظلّ والمعنى .

" شهق الشهيد

تنفست رئة الوطن "

   تستنتج قراءتنا لشعرية اللقطة في نصوص الشاعر ، أهمية النهوض باللغة من وعائها الكلامي ، وشحنها بالمتاح البصري الذي يهيؤه بياض الصفحة ، وهذا ما يجعلنا نعتقد بأن مجموعة اللقطات ولو تقسّمت على صفحات مختلفة ، تشكل في حراكها المختلف صورة بصرية ولغوية للمعنى والظل ، وكأنها قصيدة واحدة تشرب من النبع الصافي للحياة .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x