أحمد الخطيب: الشاعر الحديث لم يستطع المواءمة بين الحداثة والمتخيّل


حاوره: عمر أبو الهيجاء


الشاعر أحمد الخطيب منذ ديوانه الأوّل «أصابع ضالعة في الإنتشار»، وهو يثير إشكالية بين قارئيه، إشكالية غوصه في التراكيب المعقّدة، واستدراجه للمتناقضات في الانزياح اللغوي، ومحاولة تأسيسه لفضاءات جديدة بين المفردة وتجلياتها، والمتتبع لعنوانات دواوينه، يلمح ذلك الخيط الخفي الذي يربط بعضها ببعض، فالعنوان لديه ليس عبثياً، كذلك شعره، يراقب نصّه جيداً على مستوى التجديد والسلوك، هو من الشعراء الذين لا يمكن تجاهلهم في المحافل الثقافية، اسمه يبرز عندما يتعلق الحديث بالتجربة الشعرية الأردنية، بدأت تجربته منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وما يزال في أوج عطائه، صدر له عشرون كتاباً في الشعر والنقد، منها:» أنثى الريح، مرايا الضرير، عليك بمائي، وما زلت أمشي، باتجاه قصيدة أخرى، حمّى في جسد البحر، حارس المعنى، كما أنت الآن كنتُ أنا»، ومؤخراً صدر له ديوان جديد عن دار ليجوند في الجزائر بعنوان:» كأني لستُ من حرسي».

 «
الدستور»، التقت الشاعر الخطيب على هامش إطلاق اسمه على مهرجان عرار الشعري في دورته الرابعة، وحاورته للاقتراب من رؤاه حول الشعر والشاعر والناقد والمتلقي، وكيف ينظر للحداثة والأصالة، والتحوّلات التي طرأت على الشعر العربي.

على جناح اللغة


من هو أحمد الخطيب؟


-
ذاكرة محمولة على جناح اللغة، متورط حتى أذنيه بهزّ جذوعها لتساقط عليه رطباً جنياً، لم تركن هذه الذاكرة إلى المنجز، ومحاولة إعادة تشكيلاته، ولم يصطحب الحبر لبلوغ قوالب النسخ، شدّ مئزرهُ، وذهب بعيداً في استصلاح أراضي جديدة في الشعر، سار وفي خط متواز مع اللغة لقراءة التحوّلات النفسية لبناء الجملة، وملامسة الموسيقى في إطار ما تحمله من علاج إذا جاز التعبير لهذه التحوّلات، يعيش بين منطقتين، منطقة الابتكار والتحدّي، ابتكار مساحات لغوية لم يطأ أرضها من قبله أحد، والتحدي المستمر لنصوصه، ومحاولة القفز عن تكرار مفاتيحها، زاهدٌ بالأضواء، ومراقب للحراك الشعري في العالم العربي، يؤمن بفنية الإبداع مع الحفاظ على مستوى معقول للخطاب، يرى في المباشرة قتلاً لحساسية الشعر، بدأت أصابعه الشعرية بالانتشار منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، حتى بلغت «20 «، كتاباً.

منتدى عرار


 تمّ إطلاق اسمك على الدورة الرابعة لمهرجان عرار الشعري السنوي، كيف تلقيت ذلك، وما هي الإشارات التي يمكن أن يلتقطها القارئ العربي؟


-
أنْ تذهب مؤسسة ثقافية إلى تكريم مبدع ما زال على قيد الحياة، فهذا أمر محمود، لسببين اثنين: الأول، هو أن مثل هذا التكريم يجيء بين حالتين من الفراغ النفسي الذي يعيشه أيّ مبدع في عالمنا العربي، حالة الإقصاء التي يتعرض لها المبدعون من قبل المؤسسات العربية الرسمية وكثير من المؤسسات الثقافية ذات البعد الشللي، وحالة غياب النقد واسترخائه في الدرس النقدي الأول الذي لا يتعدى الشروحات على النصوص، ولهاثه حول ما تمّ إشباعه نقداً وتشريحاً في المنجز الشعري العربي القديم والحديث، وثاني هذه الأسباب، هو أنها تشكل تعويضاً عن الحالتين، إلى جانب أنها تشكل طلقة إشارية تنبئ عن سلامة روح الشعر التي يحملها المبدع، من هنا لم أفاجأ بهذا التكريم لأنني لم أنتظره ولم أبحث عنه، بل كنت أسعى إلى نصي الذي وضعني أمام مواجهات عدة مع المختلف من القول الشعري، كان هذا النص هو الفضاء الذي أبحث عنه في لحظات القلق، كان هو قبلتي التي كنت أتجهّز في كلّ يوم لأطوف حولها، بعيداً عن أعين القارئ والمؤسسة الثقافية المدنية والرسمية، ومع هذا فأرى أنّ مثل هذه الحفاوة تقدّم للقارئ العربي وعياً جديداً ورؤية جديدة للبحث عن المبدع الذي يكتب في خلوته بعيداً عن الأضواء، وفي هذا السياق لا بدّ من تقديم الشكر لمنتدى عرار الثقافي على هذه اللفتة الكريمة.

ثنائية الغموض والتلقي


  دعنا ننطلق إلى عالم الشعر، لنرى كيف يفكر الشاعر بعد تجربة طويلة ناهزت الثلاثين عاماً، ولها أثر واضح نوعاً وكمّا، وأَسْتَهِلُّها بسؤالي عن جدلية الغموض والتلقي، كيف تقرأ هذه الثنائية؟

هنا لا بدَّ من طرح جملة من الأسئلة، لتكون الإجابة نوعاً ما منطقية، ماذا يريد الشاعر؟، وماذا يريد المتلقي؟، وماذا يريد النصّ الشعري؟ هل يريد الشاعر استدراج معنى أم استحداثه من جملة المعاني؟ هل يريد تعبئة الشكل بالمعنى المستدرج، أم يريد أن يستحدث شكلاً لهذا المعنى؟ هل يريد النص استعراض مفاتنه «قابلة للتأويل أو غير قابلة»؟ أم يريد خلق حياة لكائناته، ولصاحبه، وللمتلقي؟. لو دققنا النظر في جملة الأسئلة، وجميعها تتشابك في لحظة مرور نفسي لدى الكتابة الأولى للنص، لخرجنا بنتيجة مفادها: كيف نقرأ شاعراً يتجه لامتلاك صوته ومفرداته وتراكيبه ورؤاه دون الحاجة إلى النسخ، أو الاتكاء، أو السطو المسلح وغير المسلح على المنجز الشعري. من هنا أرى أنّ المسألة ليست شائكة كما نظن، وأنها تشكل في مسالكها أزمة تكاد تطيح بالنص والشاعر والمتلقي معاً، لأننا في واقع الأمر، نحتاج كل ما سبق، لقياس شعرية النص، ووعي الشاعر، وثقافة المتلقي وإدراكه للامتداد الطبيعي للحظة الشعور ولحظات القنص، لن أطيل في هذا الباب، لأنه ربما يكون موضع خلاف.. ولكني سألقي الضوء، ومن وجهة نظري، على أسباب ربما تكاد تشكل مفصل الحيرة على هذا النبات الشعري الجديد الذي يسمّى شعر التفعيلة، أو قصيدة النثر، وما رافقه من تخبّط، أو ليّ عنق، أو تساهل من قبل الكثيرين، فالشاعر الحديث لم يستطع المواءمة بين الحداثة والمتخيّل في ذهن القارئ العربي، هذا المتخيّل الراسخ في الأذهان منذ قرون، لذلك كان فضاء أي تجديد يواجه بالرفض، أو انحسار المتابعة والتمحيص، أو تهويل الفاجعة من هذا الاستحداث، واتقاء شرّه، مما يؤدّي إلى إصابته بالشلل قبل نمو حركته الأولى، لهذا حدث هذا الشرخ الكبير بين النص والمتلقي، ولكن القارئ عندما يذهب إلى النص الشعري، يذهب وهو مكبّلٌ بهذا المتخيّل، بهذا الإرث الكبير الذي أنتجته الذائقة الشعرية العربية منذ امرئ القيس، يذهب وهو مقيّد بواقع له مفرداته وحواريه وقياساته، يذهب بنمط سياحي واحد، وأظنه نمطاً تابعاً، ولا يسترشد أو يتناغم مع أيّ حركة خارجة عن هذا المتخيّل، وأعذرهُ، لأن الواقع الآن لا يسمح لهُ أن يتنكب التحوّلات، حتى تلك التي تقع على كاهله، ويستسلم لها، لهذا على الشاعر أن يقارب بين ما هو قار في ذاكرة المتلقي، وما هو متحرّك في نظرته للشعر، عليه أن لا ينفصل تماماً عن ذاكرة الدرس التاريخي للشعر، فالغموض يجب أن لا يصل إلى درجة إلغاء ما هو قار، كما على المتلقي أن لا يُغلِقَ الكوّة التي تطلّ منها التحوّلات التي يرى الشاعر فيها نفسه لا غيره.

تلك الأيقونات


 إذن كيف تقرأ التحوّلات التي طرأت على الشعر العربي؟


-
طرأت التحولات في بنية الشعر العربي وفق مرحلتين، مرحلة الخروج عن الصيغة الكلية للمتخيل الصحراوي للإيقاع، مع الاحتفاظ بخيط إيقاعي رفيع للحفاظ على الوشائج القائمة بين الفعل الشعري وبين فعل التلقي، ومرحلة النزوع إلى إبطال المفعول الصحراوي للإيقاع إبطالاً تراثياً، وإسناده إلى مستويات عدة يحتاجها الزمن المعاصر، وفق هذا المنظور يُلمس ذلك الامتداد الطبيعي في شعر الرواد للغة الشعر وفضائها الموسيقي، رغم انحسار البحر عن أمواجه المتشابكة أقصد البحر الشعري، وخروجها، أو ركوبها لموجة واحدة، من هنا أجزم أن هذا التحوّل كان ابناً شرعياً لهذا المتخيل القار في ذاكرة المتلقي، مما قارب المسافة بين النص الشعري الحديث والمتلقي الذي وجد أصابع وآثار يعرفها أو يتحسسها أو له صلة معها ولو كانت خفية معها، ثم بدأ المتخيّل الصحراوي «الإيقاع بشرطه القديم» يتلاشى شيئاً فشيئاً، ومرد ذلك إلى تلك الأيقونات التي أصبح يتعامل الشاعر معها، من مثل أيقونة التشاركية اللغوية، بحيث أصبحت المفردة منفصلة عن كيانها القاموسي، وخالفت مساحات التلقي لدى القارئ، فأضحى الغموض الفني من أسس الشعرية التي يراهن عليها الشاعر، ولا مجال للوقوف على مسودة واحدة للنص الإيقاعي، أقصد المتخيل الصحراوي للإيقاع، وبدأ المتلقي يحس بغربة من نوع ما، لأن الفضاء الأوسع للقول الشعري أصبح هو المولد الحقيقي للإحساس ولدرجة الانفعال الشعري، وليس المتخيل الذهني للإيقاع، مما أدى إلى انحسار هذا المتخيل، وهذا ما لم يعتد عليه القارئ، وعليه أتساءل هل ذهب الشاعر الحديث إلى تخصيب منتجه الشعري وفق شرط المحمول اللغوي والموسيقي للشعر القديم، أم وفق ما يدفع به للخروج الكلي عن فعالية مثل هذا المتخيل الذي لا يتقن المتلقي سواه، أو لا يطرب إلا لأوتاره، لهذا أرى أن التحوّل الذي أصاب بنية الشعر يحتاج بالمقابل إلى تحوّل في ذائقة التلقي، أو زعزعة ذلك المتخيل الصحراوي في ذاكرته، لنعرف هل كان تطوراً طبيعياً، أم هو انقطاع تام مع ما ألِفه المتلقي العربي، ولإمكانية مقاربة ذهنية التلقي مع ما استجدّ على بنية المتخيل الصحراوي للإيقاع.

زمن الشاعر


 الحداثة والشعر، كيف ينظر إليهما الشاعر أحمد الخطيب؟


-
الحداثة هي أن تتلمس بنيات جديدة لأي فعل إبداعي بمقومات حقيقية، لإنشاء جسد شعري جديد يتصل في لحمته مع تراثه ولغته، وإذا كان الشعر بنية تشكيلية مقامها اللغة والإيقاع، فأرى أنّ الحداثة هي المسلّة التي بالإمكان الحياكة بها على ثوب نص ينتمي في تحوّلاته إلى زمن الشاعر، وليس الزمن المخطوط في الذاكرة، وإذا كان الشعر تراثي المنبت والنزعة ولو على مستوى التلقي والمخزون، فإن الحداثة هي موطن الاستدراك لهذا كلّه، ولكن بصورته الحاضرة، وتكوينه الروحي لتلك الهالات التي تصدر عن الشاعر، وليس بالإمكان إصدار مثل هذه الهالات لزمن مقيّد ومضى، كما أنهما «الشعر والحداثة» منطقتان لنوازع الشاعر وتجلياته في زمانه هو وليس انعكاسا لزمن آخر.

غواية الكلمات


ما هي المسافة التي تقرأها في مقولة الشاعر الذي يكتب بعين الناقد، والناقد الذي يتسلل إلى الشعر من دوائر النقد؟


 -
يبدو أن غواية الكلمة هي مرقد للتكهنات لدى الكثير من الشعراء النقاد، أو النقاد الشعراء، وفي محاولة لقراءة هذه التكهنات، تنهض جملة من آليات الفعل المقترن بوهج الإبداع، ومنها: القياس على ما سبق، وهذا ديدن النقد الأكاديمي، ومنها اقتناص ما كان في عدمٍ أضاء جوانبه مبدع هنا، ومبدع هناك، وهذا مسرد النقد الحكائي الذي يحاكي أسرار النص، ومنها ما هو هامشي، يتعلق بلفظة ليسدل الستار على بركان من القلق وفق إشارة هذا الهامشي، وهذا متصفّح الانطباعات الصحفية المتابعة للفعل الإبداعي، بين هذه  القياسات تختلط الأوراق، فيصبح النقد كائنا غير استنطاقي، لأنه سيحاول إثبات صلاحية تأشيرته للدخول إلى النص، ولو اقتضى ذلك السباحة عكس التيار.

أن تكون شاعراً تماماً مثلما يخلق الإنسان من العدم، هناك تربة صالحة للنمو، لا يطأها إلا هو، الشاعر هنا غير مرتبط بزمنية الخلق الدنيوي، بل أجزم أنه هناك في عالم الذّر، كان يراود اللغة ويخلخل أوراقها وإبر انحرافاتها، هو لا ينظر إلى الشعر، ولا إلى اللحظة النورانية، هو منغمس بهما تماماً، تماماً مثل تلك اللحظة التي تخطفك وأنت ذاهب في برية لا حدّ لها، أو صحراء ممتدة الأطراف، تتوه في سكناتها وهجير حرارتها، لهذا تحاول أن تبحث عن ظلّ شجرة، أو رجم تركه الذين مروا، هو يُنشىء له أشجاراً، ورجوماً، ويغدق على تربة الصحراء، ينابيع من قلق لتفيض بالماء الذي يحيي، وهذا إيقاع الشاعر الذي يكتب بعين الناقد
أما الناقد الذي يتسلل إلى الشعر من بوابة النقد، فأرى فيه تلك العجينة التي تُقلّب على جمر النار، ثم يدرك أنه قد نسيَ الخميرة، أو أنها لا وجود لها منذ عود الكبريت الأول، لذلك سرعان ما ينطفئ عند أول صدمة يمرّ بها في النص الشعري.

أما فيما يخص انزلاق كل من الشاعر الناقد، والناقد الشاعر أمام تجربته وعلاقتها بالمستوى الإبداعي، فهذا يعود إلى أصل الكائن، هل كان مراقباً حيّاً هناك في عالم الذّر للمتغيّر الكوني والزمني لوجوده في هذا العالم المادي البعيد عن الروحي، هل في تجربته ما يؤشّر لنزول وحي اللغة إذ هو قائم في المحراب يتأمّل ما تخفّى من جمال هنا وهناك.
من كل ما سبق أرى أنه يؤشّر على هذه الأزمة التي يعيشها الشاعر الناقد، والناقد الشاعر، مع نصوصه، لأنه بالأصل دخل من نافذة تطلّ على الإبداع، مراقباً وخائفاً من تساقطه المريع أمام مفاجأة هنا، ومفاجأة هناك، لهذا كثيراً ما يحاول تسلق الأسوار للهروب مع نصّه إلى شاطئ يظنّه آمناً، ولم يدخل من بابه، فيمارس شهوة الخلق الإبداعي وهو على سرير حريري المقام، جميع منافذ البيت مضاءة حوله، لا ينتظر إلا رعشة الجمال، ليخرج بها واضحاً ونقيّاً وصافيا، كما هو حال الشاعر الشاعر الذي لا يخشى السقوط في بؤرة التخيّل، ولا يعرف للهروب طريقاً أمام ما هو مختلف وغير مألوف، أو فيه شيء من الغموض الذي لا يتقن تلقيه القارئ.

مرتقى الإبداع


كيف تنظر إلى القوالب الشعرية، هل هي قوالب جامدة أم مُتحرّكة تستطيع أن تستوعب انفعالات الشاعر؟


-
أعتقد أنَّ المزاج هو من يتحكم بالقالب الشعري، فالمزاج هو المولد الحقيقي لنفحات الشعر، لغة وموسيقى، فكلاهما أقصد «اللغة والموسيقى»، ينتجان عن كيمياء مركبة من عناصر « الشعور، والانفعال، والتلاحم بين ما هو داخلي وما هو خارجي»، وتعضد تلاحمهما ثقافة مستوحاة أو مستحدثة، لذلك لا بدّ أن نعي في المقام الأول، أنّ الشعر ليس خطاباً تتقولب فيه الأشياء، وتنحاز له المعرفة، وتستهدفه مخرجات الواقع ومدخلاته، بل هو مرتقى الإبداع، والإبداع خلاف الوجود وظواهره، إنه هناك في المقام الأعلى من الأبدية، الأبدية التي لا يراها الناس، الأبدية التي تتنوع فيها قوالب الحياة، ولا تقف على قالب معين، أنا أتحدث عن فكرة الإبداع، ومتطلباته، وتربته، وليس موازينهُ، وإن كانت هي الضابط الرئيس، مع التأكيد على إمكانية هدمها المؤقّت، هدم القالب الشعري، وإعادة بنائه وفق منظور الهيئة الخاصة لكلّ نص، لن أقف كثيراً عند هذا، لأن الأهم من ذلك من وجهة نظري، كيف لنا أن نخلق حالة من التمازج بين المتناقضات، ونؤسس لها ممراً للعبور إلى الحياة، حتى، وإن كانت غير مألوفة لكثير من القراء، نحن في بنية الشعر لا نخطّ رسالةً، أو نصيحة، أو خطاباً ينقل شكوانا وتذمّرنا من الواقع، فهذا مجالهُ النثر والرسائل وكتبة الاستدعايات والخطب، وهناك كتاب يقفون أمام المحاكم والمؤسسات، وهم مختصون بذلك، والمبدع الحقيقي لا تقيّده الشروط الوضعية للإبداع، أنا أفرّق بين الكاتب والمبدع، فكثير من الأكاديميين هم كتاب وليسوا مبدعين، إنهم يلوّنون ما قيل في كراريس الأمم، أما المبدع، فهو نقّاش فريد، يذهب إلى الصخر، وينحت ما تهيّأ له في منجم الانفعال الداخلي، لتنفجر ينابيع الجمال، إنهُ غوّاص ماهر يبحث في الأعماق عن الجواهر، إنهُ وحش الأدغال، يجوب الأدغال بحثاً عن غزالة هنا، وغزالة هناك، ولا يخشى تربّص الوحوش المفترسة، كلّ هذا يقودنا لنعمل العقل: إذا أردنا إبداعاً لنفسح المجال أمام المبدع، المبدع الحقيقي، لينحت ويغوص ويجوب، ثلاثية أرى أنها من أهمّ ما يميز المبدع عن غيره، فالنص الشعري الحديث إذا لم نستطع محاكاته وفق منظور المتخيّل « البنية الإيقاعية البدوية» ولا أقول ركوبها، ولو بشكل متمدد ليشهد نغمة المسافة الموسيقية في العمودي، سيكون باطلاً إذا جاز التعبير، أو سيكون دخيلاً على الواقعة الشعرية العربية على وجه التحديد، أنت تركز على مفتاح الابتداع، وهذا هو المهم، كيف لنا أن نعيد صناعة الموسيقى في قالب حداثي، لا أقول استدراجها أو تقطيعها، وكيف لهذا القالب أو ذاك أن يتمدد وفق هذه الوحدات، دون الإخلال بوجهه الحداثي، نحن بحاجة إلى إعادة دراسة الجملة الموسيقية العربية، وعدم الانسلاخ عن الأصل، ومع هذا فإعادة برمجة الوحدات الصوتية في الموسيقى العربية، ليس دخيلاً على الذائقة البدوية، فكثيرة هي المتواليات الموسيقية في النثر العربي القديم التي تلقتها الأذن العربية بارتياح كبير، وما الخطاب النثري الفني ببعيد، وعليه تتحرك القوالب الشعرية، أليس الشعر كائناً حيّاً يتنقل عبر محطات زمنية خاضعة فقط بيولوجياً للقياس، رغم ما يصيبها من تحولات في الشكل.

نص ماكر


إذنْ أنت تطالب بالانفصال عن موسيقى الشعر العربي؟

-أنا لا أطالب بالانفصال عن الموسيقى العربية للشعر، بل أطالب بتحييد الشاعر عن لعبة الجزر والمد التي تضع حوّاماتها في طريق الإبداع، نحن نحتاج إلى هيبة الموسيقى، وفضاءاتها التي تمتد حتى أوّل نص شعري عربي كُتبْ، لماذا لا نراقب أصوات العصافير، تختلف في الوحدة النغميّة إذا جاز التعبير، وتلتقي في جاذبية الوعي بأهمية الموسيقى، لماذا لا نلتفت إلى بنية التفعيلة ودوائرها، لماذا نحتكم لجبروتها فقط، ولا نحاول أن نضيف إليها وعياً إيقاعيا جديداً، وعي ينطلق من مساحتها الصوتية، وليس ما تحملهُ من صور وزحافات وعلل فقط، لماذا لا تكون التفعيلة هي المولّد الحقيقي للصوت الموسيقي، لقد اشتغل الشاعر العربي على تطوير الشعر بوعيين: الأول التطور الموسيقي مع بقاء ارتباطه مع البحر الشعري، قصيدة التفعيلة موسيقياً، والثاني بالانقطاع التام عنه، قصيدة النثر انقطاعاً تاماً، فلماذا لا يكون هناك تطور بوعي ثالث وهو الاتصال والانقطاع مع البحر الشعري، وهذا يحتاج إلى شروحات كثيرة لا مجال لها هنا.  

   أين أحمد الخطيب الآن؟


يبحث عن امرئ القيس في بعده عن التعقيد والزخرفة، والمتنبي في تحايله على منطق التركيب النحوي، والمثقب العبدي وإنصاته للحداثة، ودرويش وانفتاحه على الحواس لالتقاط المعاني، ونزار في عفوية لغته وشفافيتها، والماغوط في انحرافه وقدرته على مراوغة اللغة، وأنسي الحاج ورفضه للصرامة والقيد، وأدونيس في إشاراته الرمزية وشعريته التأويلية، يحتاجهم جميعاً للخروج بنص شعري مختلف، نص يحتفي باللاممكن من التحوّلات على مستوى اللغة ودلالاتها، والموسيقى ومساحاتها الصوتية، والرؤى وقدرتها على قراءة الخفاء، يحتاجهم ليكون نصّه تراثياً


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x