الشاعر الاردني أحمد الخطيب: مشكلتنا الثقافية أننا لا نزال أسرى التصورات النمطية!

 أجرى الحوار: نضال القاسم  

أحمد الخطيب شاعر ومثقف شمولي ذو هموم متعددة، يسائل ويثور ويتمرَّد، وينقب عن الأشياء بحواسه الخمس، والشعر بالنسبة لأحمد الخطيب مغامرة متجددة مع اللغة والذات والعالم وهو جزءٌ من انبثاق إحساسه الطبيعي بالحياة، والحوار مع الخطيب فيه الكثير من المتعة والمعرفة، فهو شاعرٌ مثقف يجيد فن الحوار، يتحدث بعفوية وطلاقة تخفيان في صميمهما الكثير من البداهة والثقافة العالية والمراس الصعب.
وتعد تجربة أحمد الخطيب الشعرية واحدة من التجارب المهمة في المشهد الشعري الأردني، حيث استطاع الشاعر أن يحقق لها تميزاً في اللغة والأسلوب والرؤية لتشكل نسيجاً خاصاً به، كما يعد الخطيب واحداً من أنشط الشعراء بمتابعاته للتجربة الشعرية الأردنية وقراءته لها بعين إبداعية ونقدية، وهو يعمل في صحيفة الرأي الأردنية، ويدير منتدى إلكتروني بالإضافة إلى مجلة إلكترونية بعنوان (العهدة الثقافية) يتابع فيه الكتابات الجديدة وتجلياتها أردنياً وعربياً، والخطيب من مواليد عام 1959م، وعضو رابطة الكتاب الأردنيين، وعضو الإتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وعضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.
وفرادة هذا الحوار في كونه ينطلق من كلام أحمد الخطيب الذي يتحدث بحرية وجرأة عن سيرته ومساره وفضاءه الحي وأفقه الشعري والفكري الممتد منذ مجموعته الشعرية الأولى (أصابع ضالعة في الانتشار) والصادرة عن دار الفارابي في بيروت عام 1985م وحتى مجموعته الشعرية الأخيرة (كأني لست من حرسي) والصادرة عن دار ليجوند في الجزائر أواخر عام 2012م، وهو في هذا الحوار يتحدث بصراحة وموضوعية عن قضايا وشؤون كثيرًا ما أثارت شغف القراء وحفيظتهم، غير متهيب أي عاقبة أو رد فعل.

*السؤال الأول:- هل لنا أن نعرف كيف تسلل إليك هاجس الكتابة، وما هي طبيعة التصور الشعري الذي تم على أساسه ديوانك الأول (أصابع ضالعة في الانتشار)، والصادر عن دار الفارابي في بيروت عام 1985م ؟


*كنتُ كثيراً ما أدفع باللغة إلى مناطق غير مأهولة بالقاموس، لأكشف عن جواهرها التي أخفاها جنيّ الجمال عن بصيرة الإنسان، وكنت أحاول بهذا الدفع أن أنزل ببساطة إلى حديقة هذا الخفاء، لأنعش صورة اللغة في الذات اللغوية، وأقايضها بمماثلة الصورة الحيّة للواقع، لتشتبك لغة القول مع لغة الحيوات، مع هذه المحاولات، بدأت علاقتي بالشعر الذي وضع كلّ إمكانياته تحت تصرفي، لأحرِق مراحل البحث عن التحوّل في اللغتين، هذا من ناحية الكتابة، أما هاجسها فهو الاندفاع إلى خلق صورة للمرآة في نفسها.
من هذا المدخل تأتي أيضا الإجابة على التصور الشعري الذي تم على أساسه ديواني الأول الذي صدر في بيروت عام 1985م عن دار الفارابي، مع إضافة جرعة جديدة وهي: مراقبة عين الأشياء والأسماء في الملكوت التي لم أمكث عند ظاهرها إلا لأنطلق إلى ما هو أبعد في جيناتها وتحوّلاتها، كما أضيف من الناحية الإنسانية، استقراء ما هو باطن في التحولات التي تطرأ على الذات في دوائر النكوص إلى الوراء للأمة، ومحاولة تقديم إجابة شعرية عنها، لأن الروح في هذا الوقت تكون بحاجة إلى إجابات روحية لتسكن وتطمئن على وجودها

*السؤال الثاني:- إضافة الى الدواوين والدراسات النقدية التي صدرت لك، هناك ديوان صدر مؤخراً بعنوان (كما أنتَ الآن كنتُ أنا)، ماذا عنه، وما هي مشاريعك القادمة ؟

*كما أنت الآن كنت أنا، محاولة لاستقراء مجابهة زمنية مع زمن افتراضي، أو متخيل، يتقاطع مع الواقع، أو ربما يكون هو، لهذا برزت الفجيعة بشكل مكثف في متونه، منطلقة من الأنا، والآخر، والمحيط، والمؤمّل، قصائد لا تؤشر على واقع آني فقط، بل تسبر حجب الزمن، ليقرأها الآخر القادم بحداثته هو، وليس حداثتنا، كما أنها تشكل حلقة من حلقات تراكم الزمن، مستفيدة من الموروث، ومضيفة عليه، كما أنت الآن كنت أنا، التي استعرتها من مقولة الشاعر الأردني اليوناني أرابيوس، المنقوشة على نصب في جدارا ‘ أم قيس’ شمال الأردن، بوصلة لمعاينة الإحساس بعد أن تتكشف حجب الزمن، ألم تفاجئنا هذه العبارة ، علينا إذن أن لا نقتطعها من سياقها الزمني، وأن تقرأ الموروث في سياقه، ولكن علينا أن نمضي مشبعين بتحولاتها، من هنا وضعت قصائد هذه المجموعة لتقرأ في سياقها الزمني بعد أن يكون قد مرّ عليها زمن ليس بالقصير.
ارتباط الجزء الآخر من السؤال مع سابقه، يؤكد صيرورة العمل بهذا الاتجاه، علينا أن نكتب ما يليق بنا وبالأجيال التي ستأتي بعدنا، علينا أن ننظر إليهم بعين المستقبل البعيد، لينظروا إلينا بعين الحاضر، لذا أنا مشغول بكتابة أعمال شعرية أتحصّن فيها من التلاشي، إلى جانب اشتغالي على عمل روائي بدأت فيه منذ سنوات، وكتاب نثري أضع فيه ملامح تجربتي الشعرية.

*السؤال الثالث:- ما هي القضية الرئيسية عند أحمد الخطيب ؟ وما هي حدود العلاقة بين الأدب والحرية من وجهة نظرك؟ وكيف ترى مسؤولية المبدع في صنع المستقبل العربي، خصوصاً في الأيام العصيبة والأوضاع العربية الراهنة ؟ وهل صحيح أن العمل الناجح يُبشِّر بالثورة ويعد بولادة أمة جديدة ؟

*إذا كانت القضية وطنية فمن المؤكد فلسطين في ثوبها العربي والإسلامي، وإذا كانت إنسانية فهي زحزحة الظلم، وإذا كانت شعرية فهي معاودة قراءة النظم الضابطة لشرعية النص الشعري، هذا النص الذي استهلكته يدُ العابثين، وأخرجته من جنته، من هذا نفهم أن حدود العلاقة بين الأدب والحرية هي علاقة تحكمها رؤية الفعل وردة الفعل، فالأدب هو بالأصل إيقاع كاشف لارتخاء الأوتار، والحرية إعادة ‘ دوزنة’ الأوتار، ليخرج اللحن صافياً لا شخير فيه، فإذا ما كان الأدب عازفاً على أوتار متهدّلة، فمن غير المعقول أن تتهيأ الحرية لاستقبال معطياته من مقامات، إذن العلاقة تبادلية، أو تكاملية، أو ارتدادية، تنسجم إذا كانت مسافة الفعل تساوي مسافة ردة الفعل.
المبدع يؤشر ولا يضع حلولاً، هذا في مقام الانحياز إلى الجمال كموطن للنص الإبداعي، أما في مقام الرسالة والهدف منوط به الإحاطة بكل مفردات الوجع الإنساني، أما في مقام صناعة المستقبل، فمنوط به أن يهيئ أرضية خصبة للطمأنينة من خلال تقاطعه مع التحولات والتغيّرات التي تحدث هنا وهناك في عالمنا العربي، عليه أن ينحاز للهم الجمعي، وأن يكون لسان هذا الجمع، لا أن تسترقه الأنا وتضعه في مواجهة مع ذاته التي تتشكّل في الذوات الإنسانية، ولا أقول تضعه في مواجهة مع الآخر، فمواجهة الذات سياط لا حول له عليها ولا قوة، إذن هو بهذه المفردات يشارك في صنع المستقبل صناعة رؤيا تؤشر على عين الأشياء، ليكون المستقبل واضحاً للآخرين، ألا ترى معي أخي نضال وأنت شاعر وناقد أن هذه المفردات هي بالفعل من قاموس الثورة الحقيقة، ألم تكن ثورته الأولى على حالة الجمود التي تعاني منها ذاته كإنسان أمام فقر الكلام العادي والمنسوخ والمتداول، لهذا وثب إلى الأعلى ليرى ويثور، المبدع أخي نضال هو بطبيعة تكوينه ثائر، فمن الضرورة إذا كان منحازا كما أسلفت للهم الجمعي أن يكون عمله الإبداعي الناجح لا يبشّر فقط بثورة بل يكون لسان حالها ونبراس استقامتها واستواء معطياتها.

*السؤال الرابع:- كيف تصف علاقتك بالجماهير ؟ وإذا لم يصل الشعر إلى الجمهور، إذن أين يكمن العيب ؟ وما هو أثر شعرك خارج الحدود؟ وهل تعتقد أنك قمت بواجبك في هذا المجال؟

* أولاً أخي نضال الشطر الأول في السؤال أتمنى أن يطرح على الجمهور فهو الأقدر على التوصيف، أما الشطر الثاني والذي يسترق السمع للشطر الأول، فجوابه: تقع المشكلة على محاور ثلاثة، الأول: كثرة المدّعين للشعر الذين أضاعوا هيبته، وسيطرتهم على كثير من منابر الحراك الثقافي في عالمنا، والثاني: الجمهور الغائب عن الفعل الثقافي أمام سطوة المنجز التكنولوجي الهائل، والذي استحكم فيه فعل المادة الجاهزة، المادة الإعلامية القادرة على ملء الفراغ الكبير الذي تعاني منه شريحة كبيرة من الجمهور، لهذا هو ليس على استعداد لتفعيل منطقة التفكير والانشغال بممارسة التحليل والمراقبة التي تحتاج إلى ذهن صاف لتلقي المادة الإبداعية، أما المحور الثالث فهو الفعل المقصود والممنهج الذي تمارسه الأنظمة العربية لإخماد روح الإبداع وعدم سريانه في شرايين الناس، ربما تقول لي أن بعض النصوص وصلت للجمهور، إذن الجمهور موجود وحاضر بقوة، أقول لك: إن هذا الجمهور الذي تراه في أمسيات بعض الشعراء المرموقين، كان حضورا جسديا وليس روحيا، ودلالة ذلك، التصفيق غير المبرر لكلمة فلسطين مثلا، أو شتم الحكام، أو غيرها من المفردات، فالتصفيق هنا لم يكن للشعر، ولا لنص شعري خارق، بل لشيء في نفس يعقوب، أما الشطر الأخير فأعتقد أنني حاولت، وعليك أيضا طرح هذا الشطر على الجمهور، أو على الأصدقاء الشعراء.

*السؤال الخامس:- كيف يكون الشعر؟ وهل نحن في مأزق ثقافي حقيقي، وما هو المطلوب منا للخروج من المأزق ؟ وكيف يمكن من وجهة نظرك للشعر أن يصل إلى أوسع قاعدة في الجماهير؟

* يكون الشعر بتلاشي الوسائط بينك وبينه، بانفتاحك على سماواته، بتعتيم اللحظات التي سبقتك، بإشاعة الفوضى بين مكوناته لتكون بعدها سيّدا، تعيد له الطمأنينة، يكون بأن لا تقف على حرف، وأن تثق بمكوناته وقدرتك، أن تخوض حروباً صعبة مع مفرداته، وأن تكون المنتصر في نهاية الأمر، فاتحاً لأبراجه ومحاراته.
المأزق الحقيقي للثقافة هو أننا لا نجيد تفعيل صورة الحداثة في قالبها التراثي، والعكس صحيح، فنحن في مسلكنا الثقافي دائما ما نحاول تغليب طرف على آخر، كما أننا ما زلنا نتمسك بالصورة النمطية للأشياء في عقلنا العربي، فالمثقف الحقيقي ليس مسموحا له أن يضع يده على جديد مبتكر، أو يغير صورة نمطية راسخة عن الثقافة والإبداع، فأنت لا تستطيع أن تشكك مثلا بنظرية الطلل في الشعر العربي، أو غير ذلك من الأمور التي يعتبرها الكثيرون أمورا ناجزة رغم أن ليس من قدسية لها، من هنا أصبحت الثقافة أمراً مبنياً على التقليد والمحاكاة والتبعية، مما وضعنا في مأزق ثقافي حقيقي، جعلنا نستورد الكثير من النظريات من العالم الغربي، والخروج من هذا أرى أنه يكمن بالانفتاح على العقل وتربيته على خلخلة السائد من المفاهيم ومجابهتها بالتحولات التي تكمن في جذورها، والاشتغال على تشكيل بنية ثقافة تتصل بالواقع ومكوناته ومعطياته، دون المساس بمعتقد الأمة وهُويتها الثقافية، المأزق يا صديقي هو أننا في محاولتنا للتجديد والابتكار ننسى تراثنا، أو نخرج عليه، أو نتصيّد عثراته للنيل منه، والخروج من هذا المأزق بالانفتاح على العقل كما أسلفت في موازاة الانفتاح على التراث من أجل أن يكون جذرا ضاربا في أعماق التربة الحقيقة التي تهيؤها قدرة المثقف على عقد قران حقيقي له شروطه وشواهده.
لن يصل الشعر إلى قاعدة جماهيرية واسعة إذا لم تتغير نمطية التعاطي معه، من قبل الدول والمؤسسات والإعلام والجمهور، بالإضافة إلى تفعيل دور النقد الحقيقي الذي يكشف عورات أولئك الذين يحاولون بمحسوبيات معينة أن يتسلقوا إلى شجره العالي.

*السؤال السادس:- أحمد الخطيب، بصراحة، من وجهة نظرك كشاعر وناقد، هل أنصفك النقد ؟ وكيف ترى النقد الأردني اليوم ؟ وماذا يقدم النقد للأدب؟ وما هو تقويمك للنقود التي كُتبتْ عن تجربتك الشعرية التي امتدت لأكثر من ربع قرن ؟

*لم يكن النقد في يوم من الأيام محط نظري، ليس استعلاءً، بل لأنني لم أجد الناقد الذي يتعامل مع النص الشعري باحترام، وهذا ينسحب على النقد العربي في عالمنا والأردن ليس استثناء، الذي يتعامل مع الإبداع بالمجاملة أو المنفعة المتبادلة، مع التأكيد على أن هناك بعض النقاد وهم قلة الذي يحاولون تقصّي الإبداع الحقيقي وإنصافه، أما ماذا يقدم النقد للأدب، فإذا ما أحسن الناقد تعامله مع الإبداع فإنه سيكون بمثابة البوصلة التي تحدد معالم الطريق للمبدع، كما سيطوي كثيرا من المحطات للمبدعين من خلال حرق مراحلها التي تحتاج أحيانا إلى سنوات طويلة ليصل المبدع شواطئها.
النقود التي كتبت عن تجربتي قليلة جدا بالقياس مع منتجي الشعري الذي بلغ 22 ديواناً، وهي نقود استطاع بعضها أن يؤشر بوضوح إلى أين تتجه.

*السؤال السابع: في قصائدك نَفَسٌ ملحمي، وأجواء درامية، تتداخل فيها الأصوات، وتتعدد مستويات الدلالة، ونلحظ فيها موسيقى عالية. في ضوء ذلك، كيف تكتب، وكيف تفهم القصيدة ؟

*كيف أكتب ربما هذا سؤال من الصعب الإجابة عليه بحوار سريع، ولكنني سأحاول أن ألخص الأمر إذا ما استطعت إلى ذلك سبيلا: فالكتابة أولا هي حالة مرتبطة بالأنساق الكونية وارتهانها للحظة صادمة وعابرة في حياة المبدع، وعليه، فأنا أكتب في سياق هذه الحالة، هناك صدمة وعابرة أي ليست مقيمة، لأن الشعر كما أرى لا يؤمن باللحظة المقيمة، لأنها لحظة اشتغال جمعي، والشعر هو إيقاع جواني وفردي، يصطفيه المبدع اصطفاء خفيّا، أكتب وأنا منشغل بهذا النزق السريع المباغت، أترصّده، وحين أمسك طيفه العابر، تراني أحيط نفسي بكل مفردات العبث، لأنني أؤمن بأن المادة الأولى للكتابة لا تأتي من نظام صارم يفرضه المبدع على نفسه وعلى حروفه، بل من عبثية يظنها المرء للوهلة الأولى غواية لطفولة لا هدف ولا مسار لها، ولكنها في حقيقة الأمر هي أسرار ناسخة لهيمنة الواقع، تمرّ في شعابه، ثمّ تستوي على ما تريد، لهذا يرتبط النفس الملحمي والأجواء الدرامية بهذه المعاينة، وهذا الانحياز للعبث في المادة الأولى للكتابة.
أما كيف أفهم القصيدة، فأنا لا أؤمن بالخط التنازلي أو التصاعدي للفكرة، أو لحدث النص، أو للتصور الدلالي ذي الوجهة الواحدة، لأن هذا وحسب ما أؤمن به، يقود إلى أن يتعامل المبدع مع لغة ذات بناء قاموسي صارم، أو لغة تكاد تتوالد من خشبية ذهنية قاسية، كما يقوده إلى اجترار الوزن اجترارا تعسفياً، أنا أفهم القصيدة من باب أنها حياة متكاملة لجنين يخلق ولا يستطيع العيش بمفرده، بل في محيط له مؤثراته وتحولاته وتغيراته، يولد، وينمو، ويكبر، ويضارع الواقع، ويتأمل، ويسافر، ويعود محملا بكلّ منازل الرؤيا، القصيدة هي بناء كامل لحياة جنين ولد في عوالم كثيرة.

*السؤال الثامن:- كيف تنظر إلى خريطة الشعر العربي اليوم ؟ ومَن من الشعراء جذب اهتمامك وشعرت عبر أعماله بنكهة التجديد والأصالة والعمق ؟ وهل ما يزال الشعر ديوان العرب وشاغلهم، أم أن القصة والرواية باعتبارهما فنّاً مدينياً احتلا الساحة الأوسع؟

*أجزم أن خارطة الشعر العربي تحفل بالكثير من المبدعين الذين أسهموا في حركة التجديد الذي لا يتوقف، على مستوى القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، والذين حافظوا على أن يبقى الشعر ديوان العرب وشاغلهم، واسمح لي أن لا أعدد أسماء لكي لا أقع في دائرة النسيان، فأنسى شاعراً حق له أن يذكر، أما القصة والرواية فهما يؤكدان أن الشعر ما زال ديوانا للعرب، من خلال ذلك الفيض الشعري الذي أصبح يحتل مساحة واسعة في السرد القصصي والروائي.

*السؤال التاسع: بعيداً عن الشعر؟ كيف تراقب الوضع العربي الراهن؟ وما هو دور المثقف العربيّ في التغيرات الجذريّة الحاليّة ؟

*أعيش مع هذه التحولات التي تحدث لحظة بلحظة، فهي تمسّ كلّ واحد في هذه الأمة، وهي منجز أحلامنا في كتاباتنا، والواقع الراهن يشي بكثير من الطمأنينة رغم ما فيه من ألم وقسوة، فيكفي أن الشعوب العربية لم تعد تحسب حسابا للخوف، وهذه أول مراحل الانطلاق إلى الأجمل، ولكن على المثقف أن يكون صاحب بصيرة، ومبتكرا للحلول للمعوقات التي تقف أمام هذه التحولات، وعليه أن يكون نسيج ذاته وأمته، لا نسيج أيدلوجيته هو فقط، لأنه بهذا لن يختلف كثيرا عن الأنظمة الحاكمة، عليه أن يكون حارسا للضمير الجمعي، لا حارسا لمصالح ضيقة، وعليه أن يكون وفيّا لكتاباته المشبعة بالتحدي والانتساب إلى الجماهير، لا أن ينفصل عنها.

*السؤال العاشر: أحمد الخطيب، حين تعيد قراءة ما كتبت، ماذا تكتشف؟

*ربما لو عادت بي الأيام لطفولتي لاخترت ما آلت إليه، تماما، لأنّ في جينات الطفولة ما ينبئ بهذا المآل، مع تغيّرات قليلة، يفرضها اتساع مساحة الرؤيا، ولا أقول تبدّلها، فالرؤيا هي المساحة المتصلة بهذه الجينات، وهكذا الكتابة في طفولتها، أقصد في نشوء جذرها على تربة المراحل، وليس نشوء عصبها الكتابي، تبقى تتمدد، وتترصد، وتتزيّن، لتدخل في عملية التشكيل والتكوين، وهي مرحلة لا نهاية لها، لهذا عندما أعيد قراءة ما كتبت، أرصد التحولات التي أصابت مساحة الرؤيا، لأقف على مآلها، وعلى جذرها المتغيّر، وإيقاعات فروعها، وهي مرحلة أظن يحتاجها المبدع الذي يسعى إلى علوّ أشجاره، فالبدايات هي البذرة، ولولاها لما كان الجذر، ولولا الاتصال اليومي بما يكتبه، أو كتبه المبدع، لما كانت الفروع، ولولا تعدد قراءات المبدع لكتاباته في فترات متباعدة لما كانت الأشجار، إذن إعادة القراءة هي محاولة رصد للأصل الثابت الذي يتطلع إلى الفرع الذي في السماء.

*السؤال الحادي عشر: بعد تسع عشرة مجموعة شعرية، ماذا يعني لك الشعرُ في اللحظة الراهنة ؟

*الشعر يا صديقي هو اللحظة الصادمة والراصدة للأشياء والتي لا تعود ثانية لأن مرورها نزق، هو الرحيق الذي يمتصّه النحل من الوردة، هو الخيال المستبد بواقع هرم، هو ذلك البناء الروحي للبرق لحظة تفريغ شحنة الغيم، وهو كما وصفه الشاعر الراحل محمود درويش في ديوانه ‘ لا تعتذر عما فعلت’ بـ:’ الحدث الغامض، الحنين الذي لا يفسر ، والحاجة لاقتسام الجمال العمومي’

*السؤال الثاني عشر: ما هي القيمة المضافة التي تتوخون تحقيقها من خلال موقع العهدة الالكتروني ؟

*موقع صحيفة العهدة الثقافية هو محاولة لقراءة الواقع الثقافي العربي، على مستوى الإبداع والحراك الثقافي، هذا منطلقه البدئي، ولكنه يسعى إلى فتح الأبواب لكلّ الطاقات الإبداعية التي تؤمن بالتجديد الذي ينطلق من هوية الإبداع، وإيماننا أن لا تجديد إذا لم ترتسم على مدخلاته القيمة الإبداعية التراكمية، وفي مخرجاته قيم ابتكاريه على مستويات متعددة، فالعهدة تؤمن بأن مادة التجديد هي مادة تراكمية وليست منفصلة عن سياقها الثقافي والإبداعي، من هنا نتوخى في العهدة الثقافية أن نقدم إبداعاً لافتاً في هذا السياق، إبداعاً يستند على الهوية الإنسانية وينحاز لها، لهذا استطاعت العهدة الثقافية استقطاب العديد من المبدعين العرب المعروفين ، وقدمنا الكثير من المحاولات الإبداعية الجديدة، ونحن بصدد رصد منازل التجديد في بعض النصوص الإبداعية لطرحها كمادة للنقاش، يمكن الإضافة عليها، أو تجذيرها، مراعين بذلك عند طرحها أنها جاءت عفو الخاطر، وليس في سياق البحث عن الجديد.

*السؤال الثالث عشر: برأيك، لماذا اختفى الأديب والشاعر الظاهرة، وهل انتهى عصر وجيل العمالقة في الشعر، ما هي أسباب حالة الركود ؟ وما مدى تأثير الصراعات الشخصية في انزواء الحوارات الجادة التي تدعم المسيرة الثقافية؟

*علينا أولا أن نعي أن الأديب والشاعر الظاهرة هو ليس نسيج وحده أو إبداعه، بل نسيج جملة من المؤثرات التي تساهم في خلق مثل هذه الظاهرة، بدء من وقوفه على درجة عالية في الإبداع، مروراً بالمؤثر الزمني وطبيعة تحولاته، وانتهاء بالماكينة الإعلامية التي تصاحبه، وهنا أؤكد أن هذه التحولات التي تحدث في عالمنا العربي اليوم هي مفصل من مفاصل بروز مثل هذه الظاهرة، تصور معي لو أنّ ماكينة إعلامية في مثل هذه التحولات تتسارع لاستقطاب المبدعين، سترى كم من مبدع ظاهرة بين ظهرانينا ولا نراه.
ألم اقل أن المثقف أغلق عقله على نمطية ناجزة، إذن ليست صراعات شخصية التي تقف وراء انزواء الحوارات الجادة التي تدعم المسيرة الثقافية، بل تشبّث كل واحد بما اقترف من خطيئة التلقين، والاستهلاك، يا صديقي لن تعدم ظاهرة الحوارات الجادة في الصالونات الأدبية أو على المنابر، أو في الصحف الثقافية، إذا تجردنا من عبوديتنا للمفاهيم، ومن قال أبي، واعتمدنا في حواراتنا على عقلية منفتحة تريد الصواب أينما وجد، لحظتها ستجد ذلك الخلق والابتكار وتعميق الرؤى وشموليتها في إثراء الثقافة والفكر والإبداع.

*السؤال الرابع عشر:- الشعرية الحديثة هي اقتراح لغة ضمنية داخل النص كما يقول الناقد (سعيد الغانمي) ونجد هذا التعريف ينطبق على مجمل الشعر الحديث. بوصفك شاعراً ثمانينياً، كيف تفردتَ من بين أقرانك في الخوض في مضمار هذه الشعرية؟

*أما أنا فأرى أن الشعرية الحديثة هي اقتراح حركة ما داخل النص، مثل حركة الأفعال، وحركة الجملة، وانتشال الضمير من عتبته القاموسية، ليصبح الأثر الشعري واضحاً في نقل الصورة النمطية المعتادة للواقع أو للحدث، من عالم مرئي بالبصر إلى عالم مرئي بالبصيرة.
لا أعتقد أن مكونات النص الشعري هي مجموعة من الحالات التي تنفرد بها كل حالة لإنشاء صورة لها في النص، بل لإثبات أنها لا تحيا بغير مؤثرات المكون الآخر، فالوزن مثلا ليس مطلوبا منه أن يقيم له صورة تستند على تفعيلة من البحر، بل ليقتبس من الإيقاع الداخلي ما يشي بوجوده، واللفظ ليس له أن يبرر صورته كحاضن للجملة، بل كيف تشكل الجملة صوته ونسق بنائه، فإذا ما اعترك المبدع هذا المضمار، سيتفرد، ويبدع، لأنه عندئذ سيكون دكتاتورياً مع المكونات، ولن يسمح للعناصر أن تتشكل وفق مساحاتها المعرفية.

*السؤال الخامس عشر:- ما تقديرك لتأثير الترجمة على المبدع ؟

*أرى أنّ الترجمة في حضورها الإبداعي هي سماء جاذبة لكلّ فعل إنساني، بالضرورة أن تتقاطع معه في سياق الذاكرة المكانية التي يطمئن لها، ولا يتعدى ذلك إلى البحث عن مكونات ثقافية ومعرفية شمولية فقط، بحيث تصبح المادة المترجمة مادة غير متصلة بالمنشئ، إلا في سياق الملكية الخاصة، عدا ذلك، أرى أن الإيقاع الإبداعي يفرض على المترجم أن يتسلل إلى ذلك الاصطفاء الخفي لحظة كتابة النص ‘ الأصل ‘، لنصل إلى ملكية عامة للنص في كافة بقاع الأرض، نص يحيا وفق الذاكرة المكانية المتنوعة، نص لا يفقد حنينه إلى نفسه بعد ترجمته إلى لغات مختلفة، حتى لو تُرجم من لغة أخرى غير لغة الأم.
الترجمة يا صديقي في عالمنا العربي هي عمل فردي، لا يعدو كونه ممارسة لهواية أو تنفيذا لمشروع دراسي، ولكي نقيم التوازن بينهما، علينا استحداث مؤسسات أو هيئات رسمية وخاصة، أو دفعها إلى الأمام من خلال الدعم المالي والمعنوي إذا وجدت، للمشاركة في إحداث تغيير جذري لمفهوم الترجمة، لنقلها من وعاء استقطاب نص لترجمته، إلى بناء هوية كونية قادرة على إحداث تغيير في العقلية الصدامية للعالم، وتجدر الإشارة هنا إلى مشروع ‘ كلمة’ الذي يعنى بترجمة المؤلفات والأعمال الأدبية من مختلف لغات العالم إلى اللغة العربية، متمنيا أن يعمل المشروع على الترجمة العكسية للأدب العربي إلى مختلف اللغات.

*السؤال السادس عشر:- ما هو المعوق الأساسي في أن يكون للمثقف دور مؤثر على حركة الشارع والناس والحياة ؟. وبماذا تفسر عدم بروز أعلام في الأدب الأردني على نطاق واسع عربياً وعالمياً ؟

هناك معوّقان أساسيان يحولان دون أن يكون للمثقف دوراً مؤثرا، الأول خاص به، والثاني بالمجتمع الرسمي والخاص، فالأول: اتّباعه كما أسلفت لنمطية التفكير وعدم وعيه لأهمية المنتج الذاتي للفكر، ليكون رائداً، وتثق الجماهير بما يقدم، لأنها سترى الجديد المعمق النابع من وجدانها، فيما يشكل المجتمع بشقه الرسمي معوقاً من خلال عدم اهتمام هذا المجتمع بإبداعاته وابتكاراته، وربما بمحاربته وتضييق الخناق عليه، مما يؤدي إلى انعزاله، أو خضوعه لفكرة عدم الجدوى، أما الشق الخاص بالمجتمع فهو الأعباء الكبيرة التي يتحملها المبدع والمثقف وهو يدافع عن تجربته أمام مجتمع منشغل بلقمة عيشه، أو بالغازي الجديد الذي احتل تفكيره ‘ التكنولوجيا الحديثة’
يا صديقي المؤثرات التي تمنع ظهور الأديب والشاعر الظاهرة هي ذاتها التي تمنع ظهور أعلام في الأدب الأردني، ومع هذا لدينا في الأردن أعلاما بارزين، ولكن علينا أن نرى ببصيرة المثقف الحقيقي، لا ببصيرة الإعلام.

*السؤال السابع عشر:- التراث كموضوعة جدلية قائمة، كيف تنظر إليه، وما مدى تأثير التراث العربي القديم والأدب الغربي باتجاهاته المختلفة في تجربتك، وكيف تنظر إلى التجريب في الشعر ؟ وما مدى توظيف الأسطورة والرمز في شعركم؟

*إذا ما أحسنا النظر إلى مفهوم مفردة التراث، هذه المفردة التي تشكل في نسقها كتابا ضخماً يُنى عليه كل يوم، فإننا سنريح أنفسنا من عناء البحث عن إشكالية التراث والحداثة، عندها فقط نستطيع أن نؤكد أننا أمام تراث متحرك يبنى على التراكم الزمني، فالتراث ليس مضغوطاً في فترة زمنية قديمةٍ يحتاج إلى نفض الغبار عنه، أو إعادة قراءته، وتدويره، بل هو فعل يومي شائك، لا ينفصل عن التشكيل والتكوين والممارسة، فكلّ ما هو كائن اليوم هو تراث قادم، وكلّ ما سوف ينسج في غد، هو تراث قادم أيضاً، وكل ما راكمته السنوات هو تراث حاضر الآن، بدليل أننا منسجمين مع ولادته الآنية وليس بمعطاه الزمني القديم، فالمبدع عندما يحاكي التراث هو لا يستعيده من أجل إضاءته، بل من أجل إضاءة فعله الإبداعي، لهذا هو أقصد المبدع يتعامل مع التراث القديم كسلاح فعلي حاضر بقوة بين يديه.
أعتقد أن الإجابة السابقة تؤشر بوضوح على مدى تأثير التراث العربي القديم على تجربتي الإبداعية من خلال هذا المفهوم الذي قدمت له، أما الأدب الغربي فقد حصّن نصي من منزلق التعاطي معه أي مع النص من قبيل أنّ هناك مرسل ومتلقي، كما دفعني إلى البحث عن نص يليق بي كشاعر، لأنّ الشاعر والمبدع هو الوحيد الذي تتكشّف عليه جوهرة الخفاء، ولا تتكشف هذه على القارئ إلا بعد أن يكون المبدع حصّنها بأسراره.
أنا أعتقد أنّ النص الإبداعي، كل نص يكتبه المبدع يدخل في باب التجريب، وإلا لاكتفى بنص واحد، ولم يتعب نفسه بتحبير أوراقه، من هنا، أرى أن المبدع منذ نصه الأول وحتى نصه الأخير في حياته وهو يقف في دائرة التجريب، على مختلف مستويات هذا المفهوم، وإذا ما وقف عن ذلك، فاقرأ عليه السلام.
بالنسبة للأسطورة والرمز، فأنا لم أشي بأسطورة منذ نصي الأول، بل تركتها تنام في زمنها الخاص، واستدعيتُ روحها، لأشكل أسطورة النص الخاصة بي، الأسطورة الحيّة التي تعيش معي الواقع، لهذا قلما تجد اسما لأسطورة في نصي، أو تكاد تغيب تماما، حتى أنساقها تغيب، ولكن ستحسّ بتلك الروح المستدعاة من أعماق المتخيّل لا الموروث من الأساطير.
وإذا كان الرمز كما يرى ‘بيرس’ هو ما يمثل الإنسان حين يشكل طابعه التمثيلي، فهو بهذا المفهوم يشكل أو يحتل حيزاً كبيرا في شعري، فأنا كثيرا ما أتماهى مع طير لأسرد ما أريد، أو مع شجرة، أو تراب، أو مفتاح، أو غير ذلك، لأعطيها حياة تشبه حياتي، أو لنقل أعطيها حياتي، لتغدو أنا في عالمها الجيني.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x