شعرية الوعي في ديوان - أنشودة المستحيل



محمود فضيل التل

ديوان " أنشودة المستحيل " :

 

   التقاء المنحى الزماني بالحيز المكاني في رئة واحدة ، من السمات الظاهرة في بنية القصيدة الخليلية ، لقربها من جدلية الواقع الذي يفرض حالة من التورية والاختباء وراء كلّ ما هو تمثالي الصفة .

   يبدو هذا الالتقاء في القصيدة الخليلية، أهم مكوّناتها السردية التي تطغى على بنية الكلام ، فهي حالات من التوصيف ، تنتشر ، لتثوير رياضة العقل على السباحة في تيار الإدراك والتشبيه ، لاتصاله بحيوية الشعور الذي يتبنّى خلخلة البنية التحتية للذات ، من خلال الانتقال من فضاء مكاني ، إلى فضاء زماني ، قابل للتداول .

   ديوان " أنشودة المستحيل " للشاعر محمود فضيل التل ، هو قارىء واعٍ لحالات الانتقال ، عبر وسائل القنص التي تستدعي وجود خطاب معرفي .

   إن لغة الوعي ، أو وعي اللغة ، التي يقدّمها الشاعر في أبهى تجلياتها ، تكمن في قدرته على العثور على سمات الخاصية النفسية للشعر ، وما يترتب عنها من أبجديات تنتقل بين مختلف الرؤى .

" أتيت إربد أشكو من محبتها

                   شكوى المحب إلى المكويّ بالنار    

ورحت أسأل عن دار درجت بها

                 لما أزلت ... بكيت العمر يا داري

وطافت النفس في وجدان حاضرها

               واستعذبت صورة الماضي بأنظاري

فأسأل الناس عن درب مشيت بها

                   قد ألغيت.. وانتهت سوقاً لتجار  

     هكذا يثور الوعي رياضة اللغة ،على السباحة في محاولة لرسم الأمواج التي تتحرك وفق ما تشتهيه حركة الذات ، أو حركة الجسد الممعن في تطهير الذات من مخلّفات الأزمنة ، من خلال انشداد ظاهري لحركة الأمكنة المستترة في الخطاب المعرفي ، وما يحمله هذا الخطاب من أصوات .

" جعلت الهوى تائهاً في الطريق

                     فأضحى سريعاً إلى الهاوية

وكنت حديثي مع الأولين

                  فصرت لصوت الأسى راوية

وكنت حياتي وشوقي الأخير

                    غدوت رياح الهوى العاتية

فضيعت حباً لنا مرتين

                          وكنت بكلتيهما لاهية

فإن عدت للحب يوماً بشوق

                         فلن تسمعي مرة ثانية                          

   ومع هذا الانسداد الظاهري لحركة الوعي ، يبدأ النصّ الشعري ببرمجة المتغيرات عبر مناخات الشعرية المتحركة  التي تبدأ بالزمن ، ولا تنتهي به ، بعد أن تكون قد استقرت على المتاح المكاني الذي تهيؤه غواية اللغة .

" أسابق الليل

كي آتيك يا ولدي

وأقطع الدرب مشتاقاً إلى كبدي

وأعشق الليل

إن الليل يجمعنا

وأبكي على الصبح إذ يأتي

صباح غدي "

   كلما تقدّم وعي الذات في موازاة وعي النصّ الشعري ، فإن ضمير الحركة المستتر في المفردات ، وما يصاحبها من فضاء تجاوري مع المتخيل الشعري ، يتحرك نحو إقصاء المتغيرات ، وشحنها من جديد عبر طاقة أثيرية قابلة للخفاء .

" ألقيت شعراً على من عُمدوا فيه

                  فاستعظم الشعر في أحلى قوافيه

فما أسائلكم شيئاً على حذر

                    إلا التماسي لعذر عن خوافيه

فما أقول قليل لا أريد به

                 سوى الإشارة منها الحرّ تكفيه

فليس في أينا سوء لموطنه

                 لكنما قد هوى من كان يحميه

فما الحياة على فقد البلاد سوى

              داء عضال فهل يشفى الذي فيه ؟

  ويقع هذا الخفاء أمام مرآة النفس الداخلية ، التي تختزن جملة من الأحداث ، حيث تبدّل الأزمنة أدوارها ، في مقابل خمول الأمكنة ، بعد أن تكون قد استوفت شروطها المعنوية  " أراني برؤياي أقبض جمراً

وأعصر زيتاً

وأصنع خمراً

ولم أشرب الماء من بئر يوسف

ولم أمض في حلم سبع سمان

وسبع عجاف "

  ثم تستمر حالات الوعي انفراجها ، في محاولة لقراءة المستوى الموسيقي ، الذي يعمّد فضاء التلقي لجملة الصور التي يحشدها الشاعر ، للدخول في أقصى منازل الكشف

" تحجب الشمس

ويغتال القمر

يحلم الطفل بأشباه البشر

تصدأ الأرواح إذ يحكي الحجر

تصرخ الريح

إلى أين المفرّ ؟ "

  ومع هذا الحشد النفسي الارتدادي الصادر عن استرخاء ذهني، تنبع أهمية شعرية الوعي الصادرة عن مكاشفة الذات والمتأملة في مفردات الرؤيا ، بعيداً عن صخب الزمان بما يحمله من توتر عصبي وذهني ، غير قادر على متابعة شريط الانحدار البشري في عتمة الرماد .

" سأرحل بعد ساعات

أهاجر في بلاد الله

أرض الله واسعة

أودّع كلّ ما أحببت في وطني

ولا أدري

إلى أين النهاية سوف تحملني

فأحزم بعض أشيائي

ومنها السيف

والقاموس

والأطلس "

     لهذا الانفراج المكاني الفضائي ،يسوق الوعي جملة العصب التي تتحكم بالشاعر ، وهو يقرأ مفردات الحياة التي لا تستقيم لها مجاورة ، ولا يهدأ لها حال ، لديمومة السباحة في معضلات ما يتراءى على مرآة الزمان، لجهة تنشيط الإدراك الشعوري ، والقدرة على الإمساك بالمتغيرات التي تطرأ على الوعي .

" لذاكرتي أن تثير المواجع

لها أن تراودني عن يقيني

لها أن تنازعني في ظنوني

وأن تشعل النار عند الظلام

لذاكرتي ثورة القلب

حين يضلّ الطريق

وحين يملّ

وحين ينام "

   هذا التنشيط الذي تقوّم مجرياته شعرية الوعي ، يتصاعد بين الصحو والنوم ، لتأتي اللغة محفّزة وناطقة باسم المعطى الشعري .

" أمطري وجهي بغيث

فاض من عينيك

كي يشفي غليلا

واسقني من عذبك الشافي

فك مرّت بنا الأيام والأعوام

لم نعرف لها وجهاً جميلا

آه كم أشتاق يوماً

أن أرى عينيك حتى لو قليلا "

  في قصائد التل تستجيب النفس الداخلية ، لحركة الوعي الجماعي المستند على العاطفة المقترنة بالأحداث الجارية والمتتابعة ، استجابة الوعي المحرك ، لا الوعي التابع ، حيث يقفز الزمن ليؤشر بوضوح على معالم الكشف عن الطلل القديم ، وما يتبعه من تحولات مادية ونفسية .

   كما وتتحرك شعرية الوعي بالأحداث ، لتوليف طاقة اللغة المعجمية مع الوجه التأويلي ، لحركة النصّ الشعري ، بما يخدم مجرى دم النصّ في صفحاته المعمّدة بالطمأنينة والقلق في آن واحد.



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x