شعرية القضية في ديوان - قاب دم وانتظار




د. إبراهيم الخطيب

    ديوان " قاب دمٍ وانتظار " :


   تحتلّ القضية المركزية للأمة العربية " قضية فلسطين "، مساحات واسعة في دفع الشعرية العربية إلى أقصى تجلياتها  فلا تكاد تخلو تجربة شعرية عربية من نبض الإيقاع السريع  الذي يسري في أوردتها ، حتى تلك التجارب المفتوحة على التجريب ، والمتأصّلة في أعماق الفلسفة الكونية ، فهي وإن انتقلت إلى فضاءات مشحونة بالمراوغة ، إلا أن رمح القضية سرعان ما يطلّ برأسه ، ولو من بعيد .

   وقد أعطت هذه القضية خطاباً واسعاً في إطار البحث عن متلازمات زمكانية ، لنلحظ حراك الأسطورة في ثنيات النصّ المعاصر ، واللجوء إلى القناع لمسح طاقة الرقابة ، واستحضار الأندلس بكلّ ما تمثله من نقاط قوة وضعف ، والهروب إلى الماضي ، لإعطاء الذات قوة إضافية ، تحيط بما أمامها من لهاث .

  إنّ مثل هذا الغنى الذي تمثله القضية المركزية ، كان منبعاً حرّاً وثرياً ، استطاع من خلاله الشاعر العربي ، الولوج إلى ميكانيكية البحث عن خطى جديدة ، تساعد في مسيرتها تطوير الخطاب العربي في ملازمة الخطاب الشعري .

  كما أن القضية وازنت في مفرداتها ما بين خطاب الداخل المستند على فعالية المقاومة ، وما يصحبها من خطاب مباشر ، يتجلى فيه مقام التحريض ، وبين خطاب الخارج ، المستند على فعالية الحسّ الجوهري للهوية ، وما يصحبها من مرايا قابلة للمعالجة اللغوية .

   ديوان " قاب دم وانتظار " للشاعر إبراهيم الخطيب يعدّ حالة متقدمة للمزاوجة بين خطاب الداخل والخارج ، فهو من جهة مثال حي ، يصعّد في قنواته ، فعل المقاومة ، ويتابع مجريات الأحداث عن بعد جسدي ، وقرب روحي ، ومن جهة أخرى قارىء جيد لكلّ مراحل تطور التجربة الشعرية ، في خطابها الجديد .

    تتعمّق مفردات القضية في تجربة الشاعر من ديوان لآخر ، وفق رؤى تمدّه بالمخيّلة ، مدّاً جذرياً ، يتمثل تدرج أطياف قوس قزح ، من حيث الاستناد على فضاء اللون الأول للخطاب \ المباشرة ، وما يترتب عليه من فهم لمعجمية اللغة ، والولوج في حضرة اللون المباغت للخطاب الجمالي \ وما يترتب عليه من إزاحات لغوية .

" لا يستوي الكون على جراحنا

والحق ظالم مظلوم

تعال نمح عن جبين الشمس

كلّ هذه السحب

والحق لم تزل تذكره السماء

تعال نبسط بيننا موائد الجراح

تعال نطرح السلاح

نراجع الهموم والغيوم

نقتسم النجوم

فإن أبيت أن تكون غير النار والسكين

فلتكن الجحيم "

  يستدعي هذا الخطاب الشعري المباشر ، قوة حضور للمفردات التي تقرر إخفاء الحراك الشعري ما وراء المعنى  حيث لا طائل أمام هذا النسق الإسترجاعي ، من الضغط على عصب اللغة ، بيد أن هذا النسق يجيء ضمن دائرة الاستدلال على وفرة المعطى ، من أجل إقامة علاقة نفسية بين النصّ والمتلقي.

" رأيتُ مجندة تزرع الديناميت

على باب مدرسة في رفح

فكيل الصغار طفح

وجرافة تحصد البرتقال

لأن الفروع تخطّت على عادة الشجر العربي

وراحت تسوّي البيوت مع الأرض

حيث تطاول أبناؤها من وراء النوافذ "

   وبعد أن يطمئن الخطاب المباشر ، على قوة الارتباط بينه وبين المتلقي ، تنحسر المفردات الطللية في النصّ ، لتتشكّل وفق منظور جديد ، يسمح لها أن تزاول مهنتها الجمالية ، ولكن بعد أن تكون أفرغت حمولتها من المدلولات ، التي تساعدها على الكشف عن حقيقة المسمّى المختفي ما وراء المعنى .

" موجزة لغة الانفجار

والتفاصيل لغو الخلي

استواء المخدة في الوجنات

الجبين على الكف

اتكاءٌ بجانب أول سيجارة

عابرة في الشفاه

رذاذ ينقّط في حميّا الحوار

جفون تنام على موجة الليل

التفاصيل ريش الشرود البعيد "

   إن شعرنة القضية في مفصلها الحقيقي ، تكمن في البحث عن التفاصيل لتقرأها ، لا لتكتبها ، وهذا ما يرصده الخطاب التبادلي بين الداخل والخارج ، الداخل المستتر والملازم لدائرة اللاوعي ، والخارج الظاهر المنطوي على الجرح ، والملازم لوعي القضية .

" جنّ ليلي وساورتني شجون

                     فتعاليْ نحكي علينا جنينُ

عن ليالٍ عشرٍ ولا تدعيها

                   شهرزاد أو يدعيها الجنونُ

واسفحيها ثمالة الكأس دوني

                  قد تماديت والتمادي مجونُ

حاضري لم يعد يضاء من الماضي

                    وبابي إلى غدي لا يبينُ

واقع في خطوط كفي وسقفي

              لم تدغدغ قلبي وعيني الظنونُ "

   أيّ انقلاب هذا الذي يحدث في دائرة الوعي ، وأيّ موازين تلك التي تحكمه ، والخطاب ما زال في أوج عنفوانه النصي ، هل هو انقلاب شكلي يستحث المفردات لتتشكّل وفق ما تراه اللغة أم المعنى،أم أنه انقلاب تستدعيه قوة الخطاب الشعري الإيحائي الذي يضغط على بنية الرؤيا  لنلحظ مسيرة الانقلاب اللغوي.

" أعطني أيها الوجد صبراً جميلا

أعطني قمراً يؤنس نافذتي الضالعة بالانتظار

سلحفاة تتسلق زمني الصديء

هامشاً ينأى عن الفاصلة

بياضاً بخربشة مقنعة

غراباً يطوف ويسعى "

    في المقطع السابق نلحظ مدى حراك الخطاب المباشر المتجه إلى فاصلة الانقلاب، فهو يبدأ بالنقر على التفاصيل نقراً خفيفاً ، سرعان ما يتحوّل هذا النقر إلى إيقاع متحرك ، ينمو فيه عصب اللغة وهو يبحث عن البدائل .

" فتيلك لو يصل الليل بالليل

لكان للنجوم وشوشة أخرى

وكان القليل المقيل

ظلاً بلون وشكل

طيفاً له رائحة

ولكن الأصابع انقبضت بلا فرصة سانحة

حملت نفسي عليّ

لم أحمل الكهف أو أنني لم أزل

أحمل الحاضر البارحة "

   إنها بنية الرؤيا في الخطاب الشعري الذي يمهد له الشاعر بالتفاصيل الساخنة والمرئية ، ليلج باب المغامرة في قلب المتصوّرات ، وإخراجها عن طوق ماهيتها ، تحكمه زاوية التخييل التي تمهد بدورها للقضية ، لكي تكون منتجاً معرفياً ، لا يستكين بسكون الحال ،عبر هذا الرسم ، وفي متاح ما يقوله الواقع ، وما يحمله الخطاب من معرفة ، نجد أن المحرك الرئيس للانقلاب الذي يحدث في مسيرة المفردات وما تنتجه من رسم للواقع ، وما تحتكم إليه من متخيل ، هو شعرية القضية ، في بحثها عن المشاركة بما يجري ، وصعودها إلى أنسنة التفاصيل ، وبثها في قنوات الاتصال الموصولة بالإنسان والأرض والملكوت .  

 



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x