شعرية الأثر في ديوان - شقاوة الآس

 


خالد أبو حمدية

ديوان " شقاوة الآس ":



   التحوّلات الجذرية في إقصاء ما هو كامن في اللغة ، من مقطع شعري ، إلى نصّ مفتوحٍ على طاقة الاحتمالات التي يفرضها عمق النصّ ، هو الأثر الدال على منحى الشعرية في أغلب ما يكتبه الشاعر خالد أبو حمدية .

   ومن هذه التحولات تبدأ المفردة بالوقوع في شرك المجانسة والتمثّل ، لترشح عن حالة جمعية ذات نطاق فلسفي واسع ، لمصاحبة الأنفاس التي تتخذ من البنية الشعرية موقفاً مغايراً في الشكل والمضمون .

   إن شعرية الأثر التي تصاحب هذه الأنفاس العصيّة على المدلول البدئي للكلام ، هي شعرية موقوفة على إحالات المعنى وما يترتب عليه من تجسيمات  ، وهي إحالات تصعد من طاقتها التعبيرية إلى فضاء المتخيل .

   وإذا كان الأثر في إحالات المعنى مبطوناً في المتخيل ، فإنه في سياق ما ينشأ عن السياق الكلي لفعاليات التجربة ، يبقى مصحوباً بالدلالات ، عبر وسائل الاتصال الإيقاعي القادر على الإمساك بالتفاصيل ، فهي ، أي التفاصيل ، القوى الكامنة في حراك الأثر وما يتبعه من معطيات شعرية نابضة ، وحاملة للفكرة ، مهما تعددت زوايا القراءة .

   تتمحور موضوعات شعرية الأثر في قصائد الشاعر حول الذات والأنثى والعلاقة النفسية القائمة بينهما ، فهو لا يكتفي برسم وتجسيم الأنثى، إنما يحيلها إلى ذرات كونية ، كلّ لها أثرها الدال على موضع وجودي يسعى الشاعر من خلاله إلى تصعيد طينة الخيال من مرآة التجسيم .  

   والأنثى في المقام الأوّل " الشكل " هي بعد تحريكي لكافة مقتبسات الأثر، وفي المقام الثاني " المضمون "هي تحويل الحواس إلى كيان منفصل عن الذات ، لذلك تتوسط اللغة هذه البينية بين المقامين لجهة اتصالها بما وراء الذات

" قالت : الحزن طواعية المشتاق إلى الدمع

قلت : الدمع خفايا الأحرف

في جنبات الروح

قالت : ولماذا الشعر إذن ؟

فأجبت : لكي نطّهر سيدتي

حين نبوح " 

  وإذا كانت الأنثى حالة لونية أمام مرآة الذات ، فهي بالتأكيد تشكّل حالة من التلاشي التي يستفزها للسيطرة على متن الحركة في زمن تتقلص فيه المسميات على مائدة الحياة  ثمّ سرعان ما يتلاشى تحت ضغط التجسيم ، تاركاً بصماته الواضحة في تبدّل الأدوار التي يحياها ، مما يساهم في تعميق شعرية الأثر .

" عامت على مائين

ماء العين ، والقلب الذي بحرت به

عامت ، ولم ألقم لها سنارتي

بالشعر حتى خلته

وغرقت من موج به اضطربا "

   وعندما تتقدّم شعرية الأثر للبوح بما وراء الذات ، يتجه الخطاب الشعري إلى تفكيك كلّ بناء شكّله واقع التجسيم ، ليعيد قاموس التوحد ومفرداته إنتاج وعيه المستتر ، من خلال مرونة الاتصال بالأشكال المتعددة لطرق البوح .

" أعرف الآن يا صاحبي

أن ما تدعي من حروف

فراش

وأن اللهيب الذي يجلب الموت فينا هنا

ندهة

فرحة

صرخة في البواطن

غاية الشعر ما قد وصل "

    إن مائية الأثر واحتراقه في بطون اللغة ، يجعل من التجسيم الشعري طاقة مفتوحة على فضائها المحدد ، غير أن الوقوع على الصراط المعنوي للجمل الشعرية يعطيه مدداً ما ورائياً  ، لهذا يلجأ إلى تحريك التفاصيل ، لتكون بديلاً عن الأثر ومنتجاته ، في صيغ مشهدية غير خاضعة للارتباك ، وغير مستسلمة للعين القارئة ، لمحدودية هذه القراءة .

" الشارع

يذكرني حين تمسّ خطاي

يحفظ أسراري إن بحت

وإذ تنأى الدور بنا

يقرّبني

هو أوفى من صاحب

يحملني كلّي ، ضعفي

وهيامي

إقبالي ، إدباري

جرأة كلماتي

خجلي ، حرجي "

   من هنا تتآلف الأدوار وتتبادل بين الأثر المتمثل في ما وراء الذات ، وبين التجسيم الواقع على محدودية شبكة العين .

" وحنتْ أشجار السرو إلى الأرض

فماتت ، وحننتُ

قد كنتُ أسميها المجنونة

حتى عقلتْ ،وجننتُ "

   ثمّ بعد ذلك يكتشف الشاعر ظلال الأثر التي تتقدم لتشكل مرآة الداخل ، فيعيد لها ملمحها المبطون في اللغة .

" لم أرها

لكني بعد سنين رأيتُ على صفحة أحلامي

عيني أنثى ذابلتين

جفّف ماءهما طفلان وزوج "

   ويحيل هذا الاكتشاف الواقع والخيال إلى بؤرة جديدة، تتصل بالأثر من كونه فاعلاً ومؤثراً في الخطاب الشعري ، مما يعزز من قدرة الشعرية على تناول المسميات بأسمائها

" رغم الخمسين

ورغم الأبناء العشرة

والشيب يفعّ برأسك

رغم العينين الذابلتين

ورغم خدودك تلك الصفراء

وأهل العلم بأسرار الأرقام

وذلك ما أضحكني

أنك من برج العذراء "

  لهذا تبدأ شعرية الأثر بالبحث عن إيقاعات لغوية قادرة على الإمساك بالمتخيل ، وهو يرقى إلى مقام التخييل .

" لو أوقفني في خرم الإبرة

سأقول مدد

فلعل سؤالي يفتح لي

كلّ سماوات ، كلّ أراضين

ولا يحجبني عن روحي بجسد "

  وعندما يصل الأثر إلى مهاد العوالم الخفية  التي لا تحدها فواصل الكلام ، ويرى ما لا يرى ، وتذوب عندها كهولة اللغة ، وتتجلى له الذات في هيئة الخفاء ، ينتفي الخطاب الشعري من سفر القراءة ، ولا يبقى أمامه سوى .

" لهيب التجلّي

سجدتُ بكلّي "

   فقط في هذا المقام ، تصبح الرؤيا ذاكرة تمرّ على ما كان من نكوص الذات أمام مراحل التجسيم ، مرور غمامة صيف

" في الماضي

كانت أسماء الناس شواهد

نذكرهم فيها"

  وهنا أيضاً تتجه شعرية الأثر لنفي خطاب التجسيم ، لأن الشكل لا يساوي شيئاً بدون مضمون .

" في الماضي

كان الطلل مواتاً

لا يحمل غير مسمّى ساكنه"

     ونهاية المطاف للذات ، أن تتجه إلى تفكيك الجزئيات ، لأن اللغة قادرة في مضمونها الإشاري على إحياء فعالية الأثر عبر تتابع القراءات لفضاء التجسيم .

" تلك الزهرة

لحقت خيط الشمس

فضيعها الصبح ، وماتت "

  ومع هذا الإحياء يعيد النصّ حيويته في كل جملة شعرية ترتب له المسميات من جديد ، ليكون الخطاب محمولاً على الأثر الجمعي للذات .

" أوقفني في الخفق

وقال زمانك من زمني

لما أوقفني ، علّمني

أنّ سمائي وخطاي

وإن طالت

لا تتعدى رقعة كفني "


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x