شعرية الكتابة في ديوان - حمّى الأشياء المكسورة

 


د. مصلح النجار

ديوان " حمّى الأشياء المكسورة " :

 

    المتن الشعري بشقّيه الكتابي والشفوي ، يعتبر انصهاراً زئبقياً ، قابلاً للتشكّل والانفلات في آن واحد ، فنحن في هذا المتن نلحظ إيقاع حركي مستند على هيئة اللغة ، واقترابها  أو ولوجها إلى ساحة المعنى ، إذ أننا نكتشف بعد أن تتهيّأ البنية اللغوية ، أنها آخذة بالانتشار الهيكلي إذا جاز التعبير ، على مساحة الأبيض ، وهذا ما نسميه الشقّ الكتابي ، أما فيما يختصّ بالشق الشفوي ، فهو إنفاق حركة الحواس في البنية اللغوية ، وإظهارها مظهر الكائن صاحب النور والظل .

   من هنا تأتي قراءتنا لهذا المتن الشعري ، في ديوان " حمّى الأشياء المكسورة " للشاعر مصلح النجار .

   تعتمد الكتابة الشعرية عند الشاعر على جملة من المحركات البحثية ، والتي تقوم عليها عادة سعة اتصال الشاعر وقدرته على ضبط المفردات ، بعد أن يكون قد هيّأ لها ما تشاء من الأوعية الشعرية ، وهذا المنحى الكتابي هو تيار كهربائي يلسع المادة الحساسة في المفردات ، فيلتقطها أحياناً ، وأحياناً يعريها ، لتكشف عما تحتها .

"أكتب للنورس يقترض من البحر

ويصنع ظلاً

قمراً

للأرض الطالعة جنوباً

لجنون حلوِ الطلعة

أكتب كي أكتب أحياناً

هذا الشعر فضاء الزئبق "

  تتجلّى شعرية الكتابة، حينما تبدو المفردات وكأنها لا عمل لها، إلا أن ترتب نفسها، لتخوض مرحلة الصراع مع ذاتها، ومع ما يوازيها من فضاء معرفي متنقل، فضاء لا يعرف الثابت، ولكن يحسن قراءته.

" حبر يسبح في دلو الماء

وضوء يفلت من فانوس الجن

صلاة للمطلق يسمعها العميان

فتاتٌ مجتمع

أبني منه طفولة بنت الجيران

وبحراً ، ورمالاً ، صحراء

فتاة

أبني منه قصيدة "

  هذه البنية التنقّلية التي تحفظ للكتابة ألقها وتوهجها ، هي منبه للذات ، إلى أن سلوكها في المستوى الشعري الكتابي ، يخضع لمعايير الفكرة ، أكثر مما يخضع للمنحى التصويري  وهي بذلك تقود المنحى الواقعي ، إلى أن يسطّر شكل المتغيّرات ، وفق النمط المكاني الذي تسير على تربته .

"قصقصتْ لي جناحيْ المساء النساء

الفتاة التي دمها أحمر الضوء في شارة للمرور

أحمر الضوء فراشة

والفراشات ورق "

  نحن أمام تلوين كتابي ، تسلّط عليه الذات ضوءها ، من أجل أن يتأقلم مع المنتج الجديد للفكرة ، أو خلط الأشياء التي تمرّ على شاشته ، فالكتابة لا تعترف بالحدود ، ولا القيد ، فهي في تلوينها اللغوي ، تسعى دائماً للمطلق ، المطلق الذي يكمن به سرّ حقيقة الأشياء ، ومسمّياتها .

" هل أنت في المرآة يا أنا

أكاد أن أحسّ في المرآة صوتنا

وصمتنا

أكاد أن أحسّنا "

  ليس غريباً أن تتحد الفكرة مع المعطى الشعري ، ما دامت الكتابة ، الحبل السري الذي يربطهما معاً ، في مواجهة الاختلاف والمغايرة ، أو الاتفاق واللائتلاف ، وليس غريباً أن تنظر الكتابة إلى نفسها في كلّ قراءة جديدة  يقوم بها المتلقي ، بعد أن يكون الشاعر قد خلص إلى منتهى القول على المستوى الدلالي .

"كأني حين مزّقني كمثلي

أجمّع في الهوى خلقاً مثيلا

أعرّب ما يجدّ من اللواتي

يصيّرنّ الورى خلقاً قليلا

على خوف ،وليس الخوف مني

ولكني ،أصيّره أصيلا "

  هكذا تتحوّل الكتابة إلى خلق معرفي جديد ، خلق ثابت في اللغة ، ومتحوّل على المستوى الدلالي ، التي ترفده الشعرية بكلّ طاقتها المتخيّلة .

"الشتاء كثيف

والغبار كثيف

إن لليل نشوته حين يأتي مساءً

والصباح يسافر فجراً إلى نشوة في الشتاء

ويترك لي برده كي أعيش مسائي"

   تحتفي هذه الطاقة المتخيّلة بالنشوة، أمّ الخصب والولادة وهي دورة كتابية تشكّل الحياة من جديد، كما يريدها الشاعر، وهو في منتجعه.

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x