شعرية الأفعال في ديوان - خارج أسفار اللوم

 


غسان تهتموني

ديوان " خارج أسفار اللوم " :

 

   لعلّ من أبجديات الشعر الحديث ، الاقتراب من الفعاليات الجديدة التي أصبح حراكها نامياً في كلّ ما من شأنه أن يدفع اللغة إلى قراءة المساحات الشاسعة في مفرداتها وآليات تمازجها وتنافرها ومن هذه الفعاليات الانزياح في اللغة  ، وفي مادة الانزياح ربما نحصل على سمة من سمات العصر الذي ينزع إلى تقريب المتخيّل إلى متناول اليد .

     وفي ديوان الشاعر غسان تهتموني نلحظ فعالية جديدة تقفز وتتسيّد مشروعه الشعري ، وهي فعالية انزياح الفعل كنقطة في دائرة الطواف النصي .

    يستند النصّ الشعري في قصائد تهتموني ، على إحالة الصورة إلى فعلٍ مخصّب ، ينتج عنه إيقاع سردي ، في مغامرة فنية تستدعي الانتقال بشعرية الحركة ، من صور ذهنية حادة إلى فضاء مشمول برعاية المفردات التي يختارها ، لتستمر الحركة في إيقاعاتها المتناثرة ، وفق ما تقتضيه حالة الشعور .

" تشكّ الظهيرة حنطتها في الأعالي

إذا ما دنا الليل منا

وأملى بخروبه للغروب

تمرّ الظهيرة بعد الظلال

بخنصرها في البياض

ولم يحقن الحقل فيها بضوء "

   التحقق والقدرة التي تمليها الأفعال في وجهتها لرسم معالم المقطع الشعري ، هي قدرة غير اعتيادية ، وغير خاضعة لمجريات الكلام ، بدليل إعطاء النصّ بعداً سردياً غير خاضع لمعطيات التكثيف الذي تمليه وفرة الانزياح في اللغة ، فالأفعال تمتدّ وتنتشر في محاولة للابتعاد بالسطر الشعري الأول عن الذي يليه ، لكسر حدة الواقع الشكلي للكلام ، وبناء نسق شعري يؤدي دوره بعيداً عن التصادم الذي يعيق نمو الصورة وحركتها .

" انزع عني جسد اللحمة

ضع جزءاً تحت نجيع الموت

لا عاصم منك اليوم

ولا منجى "

  وتتواصل الأفعال في حركتها البنائية ، لاجتلاب مادة النصّ وطغيانه اللغوي لقراءة البعد التشكيلي الذي تقدّمه الأفعال وهي تتوزّع على جسد النصّ .

" ما كان سوف يكون فرداً

نزف القيامة مرةً

أو عبرة عبرت مواجعها الجهات

ميدي بزرقتك الشفيفة هاهنا

وتعمّدي باللعثمات "

   لا تتقيد الأفعال في نصوص تهتموني بالوجه الواحد ، بل تنطلق من الخارج الذهني بعيداً عن طاقات الداخل ومفرداته  لتشكّل مرجعية للبنى اللغوية والإيقاعية ، وما ينتج عن هذه البنى قوى ضاغطة باتجاه تفعيل دور السرد الشعري .

    فنلحظ نمواً لغوياً في المقطع التالي تجسّده بطء حركة الأفعال وشعريتها

" عتقت قوارير المياه

 وتفتقت في البعد أسفار العويل

منذ أيقظت كنعان خضرتها

وسلّّت للمكان

خصلاً تطلّ على التخوم

مذ زاوجتْ بدءاً ببدءٍ

شطر نافذة الخصام "

  وإيقاعياً يتمثّل في تسريع هذه الحركة من خلال استخدام أفعال ذات مرونة عالية

" ريش من الغيم البتول

يعلي لزنبقتي اشتعال

لأشدّ ما رتقت أساورها الشموس

إذا تعمدت الصدى

في ماء ذاكرة الخيال "

   إن اتكاء الشاعر على جملة الانزياحات التي تحدثها حركة الأفعال ، توفر مساحة لتبني صيغ شعرية قابلة للارتقاء بنفسها .

" ستمرّ إذن زينب

صاعدة كسل المفتاح

ومجون الباب

سندق بقامتها الملكية

مائدة الأعصاب

سنهزّ لخصلتها الأقواس

لينهمر الشهد "

  تلخص فكرة عدم انزياح القول في النصّ الشعري ، عن مضمار السياق المقام أصلاً لتبني المثول اللغوي ، حالة من التماسك بين مكوّنات النصّ وذات النصّ ، إذ أنها تسعى إلى توطين ما يمكن له أن يضيف أخيلة جديدة ،لا على مسرح النصّ اللغوي فقط ، بل على مسرح الفكرة التي تمرّ بها شعرية الأفعال .

" نازف وجه هذا الغبار

وله أن يقيل الثرى

وناء كحورية

سيجت ظلها في الخزام

قلت لم تشتعل

في الظلال الأواني

حين حامت يداها

على نصل هذا الرخام "

    تتحقق البنية التخييلية في قصائد الشاعر ،من خلال امتلاء الأفعال بشعرية قادرة على إنتهاك مادتها السردية ، للوصول إلى حالة من الانزياح الخاص ، وخرق قانون ترابط الجمل الذي يترجمه الواقع الشعري المصاحب لحركة الأفعال ، وغاية الشاعر في الركون إلى مثل هذه الفعالية ، الانتقال من حالة شعرية مألوفة إلى حالة متجذر وفاعلة تتعدد وتتباعد فيها البنى اللغوية والإيقاعية في مساحة النصّ الشعري ، حالة تبدأ من الفعل وتنتهي به .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x