شعرية الأسئلة - مختارات من شعر إدوارد حداد

 


ادوارد حداد

مختارات من شعر ادوارد حداد :


  يقوم الشعر العربي الحديث على اختراق مساحات الصمت، عبر رسم دوائر متحركة من الأسئلة القديمة والجديدة ، الأسئلة التي تقف عليها قوامة الذات ، وانشغالها بترتيب أبجدية معنى وجودها في هذا التراكم الزمني ، ومن خلال التقاطها لجوهر الأسئلة .

   ونستطيع أن نجزم أن معظم هذا الشعر ، لا يخرج عن نطاق هذه الدوائر ، وإن كان متحللاً من مرايا الأجوبة ، التي يتركها عادة للمتلقي ، أو النقد .

   تجربة الشاعر ادوارد حداد تقف على هذه البؤرة من الاشتباك مع الأسئلة ، تحدد معالمها ، تقر بوجود مآل حدسي لتشعباتها ، وقواها الضاغطة ، فتحاول أن تقرأها تحت تأثير التباسها بمتغيرات الذات .

" لماذا لم يعاود الحنين

ترحاله إلى عوالم الأزل

لأنني وكالحصيد لا أجيء

في موسم الشتاء

لكنني وكالشتاء أقتل الموات

كذابة عرافة الفصول

إذ أنني أعود من دوامتي

تحملني أصابع العذاب

لحبة المطر "

  بأيّ صورة تشاء الأسئلة أن تركب معالمها ، وتقرأ محطاتها عبر الترحال في ضلوع الأمكنة والفصولة ، بحثاً عن الأثر الذي يمدّها بشرعيتها ، ولو على المستوى الذاتي  الذي تقرّه العملية الشعرية.

" عام بعد عام

أحوم حولك طيراً عاشقاً

أرهقه التطواف

حقول الشوك تبيض أسى

وعيناك فقأوا بؤبؤها

ورجعت إلى قفصي

لأطارد وجهك خفية

أتلصص من خلف الأسوار

عل الوجه يطوف

شاة ساقوها للذبح وما ارتدوا "

  إن العنصر المحرّك للأسئلة أو طرحها أو كتابتها ، هو عنصر الحفاظ على الذات من التورّمات التي تصيبها في حال النكوص إلى الداخل دون أثر يذكر ، لهذا تتطلب عملية الطواف للبحث عن المخرج الحقيقي لأهمية طرحها أو كتابتها ، أن تكون الرؤيا والرؤية واضحة ، لفعالية الأثر الذي تتبناه .

" أنت لي ؟

أم أنك الآن ضياعي

كلما أوغلت فيك

زاد خوفي

صارت ملامحك

مراياي التي لا تنكسر "

   إن شدة الالتصاق بمنبع الفعالية التي تتواشج معها حكاية طرح الأسئلة ، تقوم على الثقة المسحوبة من خزائن الذاكرة والقدرة على المعالجة .

"ومن أيّ هذي العروق

دخلت بمجد إلى عمق قلبي ؟

أكلّ الخطى باتجاه البحار

تمرّ على الساحل الملتهب ؟

أكلّ القلوب هنا ؟

ترتب إيقاعها من صهيل الخيول ؟

أكلّ العذارى هنا

فراشات هذا المساء ؟

وهذا الخريف ؟

   لقد آثرت الأسئلة أن تترك الأجوبة في منتجع الذاكرة ، لقربها من المعترك المعرفي ، لهذا تتقدّم الشعرية لتأخذ مكان الأجوبة ، في مقابل أن تفسح مكاناً للمتلقي أن يتذاكر مع الذات ، للوصول إلى منتجع الأجوبة .

" لم يعد من مكان يليق بنا

كي نتجالس ،ونشرب قهوتنا

نتبادل وهم النظر

والحديث المقنع خوفاً

وخفايا القدر

فكلّ الزوايا

وكلّ الأماكن

مكتظة بالفضول ،ومفعمة بالمخاوف "

  المستوى القرائي للأسئلة ، هو أن تدخل فيما وراء الذات وشعريتها ، بدءاً من طرحها وانتهاءً بالتخييل ، الذي تقوده للكشف عن سرّ اختفاء أجوبتها المعلّقة في الذاكرة .

"ما الذي أقلق الطفلة النائمة ؟

وصارت تخاف الذهاب إلى المدرسة

أو اللعب في الحيّ

أو ربط جديلتها الواحدة !

ما الذي مزّق الدفتر المدرسي

وأتلف كلّ المناهج

وكلّ حكايات جدتها

فنامت على كتفي ..

باكية ؟!

   هكذا تكشف الأسئلة عن منهجية الذاكرة في البحث عن معنى المعنى ، وهكذا تفرض حضورها الشعري ، وما هي إلا أسئلة معرفية ، لها ما وراءها من واقع مرئي .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x