شعرية التدوين في ديوان شجر اصطفاه الطير

 

عمر أبو الهيجاء

ديوان " شجر اصطفاه الطير " :


 تتمتع القصيدة الحديثة بقوة اختيار وتخصيب مادة القول الشعري،قبل الولوج إلى القاموس المعجمي ، لجهة اتصالها بالفعالية المطلقة للمفردات ، وعدم حثّها على السير في شبكة العلاقات اللغوية ، قبل أن تؤسس لنفسها مكاناً لائقاً ، يخدم الشكل والمضمون .

   وإذا كانت هذه المفردات ،لا تستفزّ إلا من الجانب التأويلي، فإن وجودها في السياق الشعري ، يعتبراً وجوداً مطلقاً ، ينكشف عنه التلازم والتوافق في المجاورة والمساندة التركيبية .

   وفي تجربة الشاعر عمر أبو الهيجاء ما يفي بالغرض ، لقراءة شعرية التدوين ، وما ينتج عنها من آفاق توسعية ، غير خاضعة لميكانيكية التلازم والتوافق الشعري .

   يسافر أبو الهيجاء في غير قصيدة من ديوانه " شجر اصطفاه الطير " إلى محطات مكانية تتوافد من الأصقاع الداخلية ، التي يحياها النصّ قبل ولادته ، يؤطرها بمناخات ضبابية ، ويعيد انتشارها حسب مقتضى حال المجاورة ، ولا يرقب فيها إلا ما ترقب هي في كينونتها المتحركة .

" ما عاد حرف الحكاية

يلمّ وسائد الأرض

ورعشة الرحيل نوافذ مستلة

من حبل الذكريات

يغسلني نشيد

احتشد في ممرات الجسد

وأبقاني منتظراً بقايا الطوفان

ولم يعد المنام مناماً

يحدد المسافة بيني وبين دمي "

  في فضاء هذه الحركة ،التي يسعى الشاعر إلى تدوينها ، لتستقرّ في ذاكرة النصّ ، ثمة عنفوان لغوي طارىء على جسد  السرد ، وهو ما يعيق التدوين في المرحلة الأولى للوعي ، مما يحتم على الشاعر الانتقال بالمفردات إلى مستويات أكثر مرونة .

" كثيراً

تمشطني الشوارع بأعين المارة

أحتفظ بكامل هيبتي

بخطى ذاهبة إلى غبطة الضوء

تاركاً خلفي

عيوناً منكسرة "

   وللحفاظ على بنية التدوين ، تتلاحق الصور مع جزئياتها  وفي مقابل هذا لا يجد النصّ حرجاً في التنازل عن المقطعية الشعرية ،

" تمحوني أصابع الليل

لا بدن لصلصال الورد

ولا

رائحة الحرف

تسري في ملكوت الصحائف "

   ثم يسعى المقطع الشعري إلى تبويب السطر ، بما يفرضه واقع التنقل بين تدوين الفكرة وتدوين الحالة الشعرية

" أنا أخطّ تواريخ القلب

على منفضة التراب

كي يبكي البحر

دهشة الأوراق

ولذة العاشقين "

  إن الإشارة الأولى التي تجلس في محطات التدوين ، هي مادة الحفر بالمسميات ، وإن كانت على قدر كبير من التشظي ، إلا أن رفقتها مع المسمى وصحبتها للمفردات في عملية استكشاف المجاورة ، تجعلها تأخذ أبعاداً عقلانية ، تمازج المتصور مع الجذر العصبي الذي يعيش في النصّ .

" كثيراً

آتيه في معناي

أنقّط الغيم

وأدقّ على شفة الطفولة

شاهدة الموت

وأصغي للدود "

   وإذا كانت الإشارة الأولى للتدوين تحفر بالمسميات ، الشخوص والأمكنة ، في محاولة سردية تكشف عن أبعادها الدرامية ، فإنها تخلط الأوراق بين مادة التدوين ، ورؤى التدوين .

" أنا ثابت

ما رأيت

تجولت كثيراً

لأرى الأماني

قبراً

قبراً "

  ولنمو مراحل التدوين الشعري والكتابي ، فإن المفردات تبدأ عملية الرحيل من منطقة لغوية إلى منطقة شعرية قادرة على إضفاء الصفة على المنجز الكلامي ، بعد أن تكون قد اشتبكت مع نفسها ، وهي تنحدر من قاموسها الوقائي .

" في البال

سيدة تمشي

تزفها حروف معناي

تنام داخل السؤال

تعرج إليّ

مثل اللغة

فيصحو في نار دمي

الكلام "

  ومن معايير التدوين ، البحث عن مناطق جغرافية ضابطة للانحراف الشعري ، بحيث يبدو للوهلة الأولى مغيّباً غياباً رؤيوياً ، ولكن هذا الانحراف يظهر في مساحة التدوين ، على هيئة صور متنقلة لا استقرار لها .

" طاف بي الليل

فوق شاشات الأرض

فقه التراب

ومنطق الماء

تعلمت

بين أصابعي أعشاب توهجت

سرب من الطير غطاني

وقبّلني السحاب "

   ويشير السياق العام لتجربة التدوين في قصائد أبي الهيجاء ، إلى تطور مادة الفضاء الشعري الذي ينساب خارج النطاق الإيقاعي ، وفق معطيات تتقدم أمام فضائها المنقول ، نقلاً تصويرياً مما يساعد في لملمت جزئيات النصّ رغم اختلاف أبعادها ومكوناتها .

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x