شعرية القافية في ديوان كلمات لا يفهمها إلا القتلى

 

عبد الرحمن فحماوي
ديوان " كلمات لا يفهمها إلا القتلى " :

   لم تكن التجربة الشعرية الجديدة بمنأى عن القافية ، حتى وهي في أعمق تجلياتها المفتوحة على صناعة نصّ غير مقيّد ،فما زالت القافية خادم النصّ ، وهو يجلس متربعاً على عرش الحداثة ، وهذا ما يجعلنا نقرر بأن القافية ليست سنداً إيقاعياً وحسب ، إنما هي فعالية شعرية قائمة بذاتها حيناً ، وموصولة بالنسيج النصي حيناً آخر ، للكشف عن عمق مسيرته منذ أن يتكوّر في رحم اللغة .

   تجربة الشاعر عبد الرحمن فحماوي في ديوانه" كلمات لا يفهمها إلا القتلى " تفصح عن الجانب الشعري للقافية ،وتؤكد حضورها على المستوى الصوتي ، والمستوى الجمالي الذي تقوم عليه الشعرية العربية .

   وإذا كان إنتاج الصورة الشعرية منتجاً لغويّاً متخيّلاً ، فإن إنتاج القافية ، يعتبر فعلاً تحريريّا لهذه الصورة أو تلك على المستوى البنائي ، وهذا ما يجعلنا نؤكّد بأن القافية ليست سلوكاً نمطياً مفرغاً من الدلالة الكليّة ، بل هو سلوك حيٌّ وفاعل ، يؤثر في المعطيات التي ينتجها النصّ الشعري

" أسلم الأضلاع والكبدا

               إذ رأى وعد الذي وعدا

للرصاص المرّ مندفعاً

                للمدى والطعن منفردا

قد دعا الأصحاب يندبهم

                لم يجد من حوله أحدا

أطلق النيران من يده

                 حاملاً جرحاً له ويدا "

   من الملاحظ في المقطع السابق، أن القافية كانت تسلكك طريقاً بنيويّاً يتكاتف فيه الصوت الإيقاعي مع صداه المتخيّل ،للوصول إلى متن قابض على المنحى التصويري \ الدرامي \ الذي يشدّ أواصر النسيج ، والذي تعتبر فيه القافية ، يداً محركة لما قبلها وما بعدها .

" هات اسقني صهباء لما تُقتلِ

                   إن القتيلة في الحشا لم تَقتلِ

ويلمّها محمودة في حسنها

                  محسودة في كأسها لم تُنهلِ

إني أعُلُّ مرارة من دهرها

                  فتعال ننهل سلسلاً من سلسلِ

    ولعلّ صورة القافية وهي في السياق الإيقاعي مملوكة للظلّ،بيد أنها في المنحى التركيبي جذراً متمكناً من أصوله اللغوية ، وفروعه في المعنى المناط به تقديم الفعالية الشعرية .

" يا توأماً بعد نأيٍ في الهوى اتّأما

                 رغم الوشاة ورغم الخطب والتأما

لما تعانق قلبانا فما لفمٍ

                    تعانق المجد والفخر الذي بهما  

تسابقا للعلى حتى إذا وصلا

                     تزاحما شرفاً بالحبّ واقتسما

الأرض أرضهما والنهر نهرهما

                    والقدس قدسهما والضاد أمهما "

  وفي ضوء هذا التصوّر ،لحيوية وسلوك القافية في النصّ الشعري ،فإننا نجد أنها تميل دائماً للحضور النفسي بين يديّ النصّ،لإعطائه جرعة من الثقة ،لبثّ كلّ ما لديه من معان ظاهرة أو باطنة ، كما تجعله قادراً على الانطلاق ،مهما خبا صوت القافية الإيقاعي .

"من قال بأنك متّ وأنك صرت تراب؟

أو ليست صورة وجهك تلمحنا

وتطاردنا في كلّ مكان ؟

أو لست الراكض والماشي فينا؟

من قال بأنك متّ وأنك صرت دخان ؟

يا تابوت الفرح الأخضر

والشارع مزدحم بالأحزان

يا ظلّ النعش على الأيدي

يا ظلّ الشمس على الجدران"

  رغم اختلاف الصوت الإيقاعي للقافية ، إلا أنها بقيت منظورة في النسيج النصي ،تتداخل منتجاتها البنائية ، لتشكل حضوراً جديداً في الانفتاح على المساحات الخلفية للتداعي ، وتستحدث قوى ضاغطة على المفردات .

"سقاني الدهر كأساً بعد كأسِ

               فهات الرّاح واشرب مرّ كاسي

لعلّي إن شربت سلوت يوماً

               وعلّك إن شربتَ عرفتَ أمسي

عجبتُ لمن أراه ولا يراني

                   له عينان أم أغشته شمسي؟

ولستُ مبالياً أن لا يراني

                  لعلمي أنني أبصرتُ نفسي

   إذن تبدو ميكانيكية شعرية القافية في البنية التي يستخدمها الشاعر في جعلها المتحكم بالنسيج المتني للكلام الشعري، بدءً من المفردة الأولى في البيت الشعري وليس انتهاء بعجز البيت، لأنها ربما تكون في فعالية النسيج امتداداً لما بعدها، وهي في هذا الإطار نادراً ما تكون في ذهن المتلقي.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x