شعرية المعنى في ديوان - البعث الثاني

 

عادل الروسان

ديوان " البعث الثاني "

 

    لم يكن الكلام الشفوي بمنأى عن الشعرية المتحركة في النصّ الواحد ، فهو وإن بدا خاضعاً لجملة المتغيّرات التاريخية والجغرافية ، فإنه كان يمتح من طاقتها التعبيرية وسطاٌ قابلاً للمشاكسة ، ومن هذه المشاكسة تدخل البنية اللغوية ، لتصطحب الحال الشعري إلى مقارعة الواقع بحثاً عن محور التوتر الخفي .

 ومن منتجات الكلام الشفوي الانطلاق بسلاسة إلى المواقع الحساسة في ذاكرة المتلقي ، التي تخضع بكل طمأنينة إلى شعرية المعنى التي تقودها إلى محاسبة الذات ، وحثّها على تناول المتغيرات بطريقة سلسة أيضاً

 ديوان الشاعر عادل الروسان " البعث الثاني " يؤكد حضور هذه الفعالية التي تتكىء عليها حساسة المواقع ، وهو مؤشر واضح على أهمية تناول الذات ومحاسبتها ، والشروع معها لتقصّي المحيط الجمعي ، بعد أن تكون قد دخلت في جملة الانعكاسات التي تجعلها قادرة على تحريك الآخر

" ما قيمة الحرف إن لم يلهب الورقا

                    ويوقظ الفكر والاحساس والقلقا

فكل قولٍ جُفاء لو تزيّنه

                إن لم يقل كلّ من أصغى له صدقا

إن المنابر لم تنشأ لمرتزق

                   تباً لمن بضمير الأمة ارتزقا "

  نلحظ أنّ مهمة الذات في متاحها الشعري أن تؤكد على حضورها، قبل أن تستبدّ بها الدوائر ، وهي مرتبة جمعية تتقدم لتكشف عن الذوات المقيّدة ،

" عندما تصمت القنا والسيوف

عندما تدفن البنادق في الرمل

ويجثو الفؤاد

في حمأة الوحل

محال أن تسترق الحروف "

وهذا ما يجعل الشاعر على عتبة القول ، أن يجزئ الصوت ويفرده  بحثاً عن كلية المعنى، فالظل الكلامي يبدو في شكله اللغوي موجّهاً لصوت داخلي ، ولكنه في بعده الشعري يحمل تلك الطاقة الخاضعة للكل

" أعذروني فكلّ شعر أقول

                  بعد إعجازهم هزيل هزيلُ

أيّ شعر يسمو ليمدح شعباً

                   ذلّ تحت أقدامه المستحيل

تتهاوى قصائد المدح خزياً

                 عندما تنطق القنا والنصولُ

دولة الشعر رقعة ومداد

                     لرماد يوم اللقا تستحيل

لا يردّ الأعداء أجزل بيت

                ويصد الأعداء طفل يصولُ "

  في شعرية المعنى تختلط الأوراق وتتقدم على مساحة اللون، لتشكل حضوراً دافعاً باتجاه التقاط جزئيات تتشكل فيما بينها لتتعاظم الصورة التي تنطوي على الفكرة ، فكرة إبراز الذات كحامل جهوي للواقع المحيط ، فالذات في المساحة الشعرية تبحث عن مساحة مقابلة في بلاط الفكرة الأخرى

" هنالك خلف السدود

وخلف الحدود

التي زرعتها يد الغاصبين حقولاً من الموت

تصاد قافلة العابرين

تقدّم أضحية عند أرجل " يهوه "

ترّش دماها على كل مذبح

 وخلف هذه المساحة يبدأ الصوت برفع وتيرة اللغة ، لتكشف عن الكليات المستترة التي تجعل من الذات ذاتاً خاملة غير قادرة على رؤية نفسها إلا من خلال متابعة المسيرة

" مقدسة أنت

فلست كأية أنثى

مباركة الظلّ

ملاذ لمن أرهقته المسافات

تردين غائلة الجوع في بلد لازمته المحولُ

فأنت الحياة "

   إن المجابهة التي تبحث عنها شعرية المعنى في إسقاط حمولتها من الانفعالات ، تتجه في الغالب إلى تعميم صورة الذات الفردية الخارجة عن نطاق الركون ، وهذا ما يدفعها إلى الظهور على صورة قربان يتقدم باتجاه الخلاص

" أيها الصيف انتحر في وطني

                     ولتكن شمسك ناراً وحماما

لو يموت الناس عن آخرهم

                    سيموتون كما عاشوا كراما "

 وهكذا تتسع دائرة شعرية المعنى لتشمل كل مفردات الذات المجابهة ، بحثاً عن صيغ تحمل أفكاراً ، تجرد الذات من خمولها وركونها إلى الواقع وما ينتج عنه من تعتيم

" من لا يتألم من جرح ينزف من يده

هو ميت، لكن يتنفس ذلاًَ وهوانا

من يغلق أذنيه بكفيّه

لكي لا يسمع أصوات الأطفال المذعورين

ما كان ولن يصبح إنسانا"

  هذه هي أبعاد شعرية المعنى ، تبدأ من الصورة الجزئية التي يقتنصها الشاعر من الواقع ، وتنتهي بالمؤثر الواقعي على الذات ، من أجل استنساخ هيبتها ، وعدم الرضوخ إلى محيطها المتفشي ورماً .   

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x