شعريّة الإشارة - في ديوان على وشك الحكمة


   

                                           د . محمد مقدادي

ديوان " على وشك الحكمة " :

 

  في الاتجاه الشعري المغاير ، يتجه النصّ الواقعي لمعالجة اللغة وحصارها ، وتوريطها بالوقوف على حافة المستقيم ، قبل البحث عن مسودة مبتدأ الفعل الإشاري الذي يسعى إلى تحويل مقام اللغة ، إلى حالٍ يتكئ على معراج المتخيّل ، قبل النزوح عن دائرة الخبر الدلالي ، الذي يشي بالوقوف المعاكس لكلّ مسمّيات النصّ ، بدءا من إطاره الخارجي ، وانتهاء بإفرازاته التي تصيب بالحمّى ،ولا تتهافت على اللغة كمنجز تجميلي للكلام ، ولا تستند على مواصفات التجارب السابقة الناسخة والمنسوخة ، بل فرضت سيطرتها على النصّ المخصّب ، وتعالقت معه احتفاء واختراقاً ، وتعبأت قواريره بصفاء اللغة ، وسيولة موسيقى المعنى ، وامتزجت وقائع حياته مع رؤيا الخيال والمعراج البكر لتشكّل جميعها لوحة وقفية على ما يمكن أن نسميه " النصّ الطيني المخصّب ".

   تأتي هذه التسمية التي نختارها لمثل هذه النصوص  من كونها تعتمد الجبلة الأولى لمفردات الكلام ، حيث لا بداية لها سوى ذلك الإيقاع المنسرح على متناول اللغة ، واعتباره منفذاً لسلطوية الداخل ، الذي يطيح بكافة أشكال الحياكة ، درءاً  للوقوع في مجرى الانسياق وراء المسميات المكررة وغير الناطقة .

 لماذا تأخذني أشعاري

إلى غابتها النائية

حيث هناك تفتتني حرفاً ، حرفاً

وتسقط النقاط عن جسدي

فأصبح كغصن حور

ألقاه السابلة على منعطف تشريني "

  وتنبع أهمية النصّ الطيني المخصّب من دورانه في ميكانيكية مفردات اللغة ، واحتفائه بالإشارة ، وانشغاله بالصفائح الكهربائية التي تغذي أوردة المعنى

" للشوارع

صدر :

شاسع للغبار

وعورة :

مفضوحة للشمس

وظهر :

مسكون بالشياطين المنحّاة عن عروشها "

  وإذا كان هذا النصّ ينتشل الصورة والحركة من الوريد اللغوي ، فإنه يعيدهما إلى المساحة الورائية لمادة الإشارة ، فهما يتشكلان من جينات مخصّبة مسبقاً من الذات ، ذات النصّ ، كمجال دائري يتسع للقاعدة اللغوية ومادة الإشارة ، وذات النصّ ، كمنطلق توطيني للفعل الشعري  

 أعرف أيتها الزنبقة

أنني لست أكثر من رجل

مرّ على أرصفتك المزروعة بالجمر

فأصابه رذاذ عينيك

وانطفأ

وأعرف أني انكسرت يومها

على شوارعك المبتلة بصقيع الأيام الماضية

فأسقطني دوار المراهنة قبل أن أتيقن

أنني رجل

أحبك أكثر مما يجب "

   من هنا تأتي أهمية التسمية المقترحة ، حيث يفوّض النصّ ذكورة الكلام ، لمصاحبة أنوثة اللغة ، وما بينهما ، الحامل الوراثي " الشعر ، النثر ، النصّ المفتوح ، القصة "

" قلبي طافح

حتى ضفتيه بالوجع

أية أنثى أنتِ ؟

أية زهرةٍ نارية حملتِ لي

كي أبحث عن ضفتين غيرهما "

  " على وشك الحكمة " عنوان أثيري محمول على نقطة استبدال حاضنة لكل فعاليات نار التجربة ، وممارسة غير مفتعلة للوقوف على حكمة المعزوفات البرمائية التي تبدأ بالجر ، لأنها في رحلة المزج التي تؤسس لخطاب النصّ المخصّب ، من حيث طاقة التجديد ، تجديد محطات التجربة  وإنباتها على مساحات التأويل ، وفق معادلة تنهض بالعنوان على النحو التالي :

"على" حرف جر يمثل طاقة اختراق هيئة السكون ، واقترابها من مبتدأ الحركة ، للتأكد من قابلية مسألة الإمكان  إمكانية التصوّر الذاتي للمعنى

 من جاء في البدء

الشعر … أم الشاعر ؟

الأغنية … أم النورس ؟

الزرقة….. أم البحر ؟

الليل …. أم النهار ؟

أكاد أجزم

بأن الشاعر قد أشعل

شرارة الكون الذي به ابتدأ "

" وشك " اسم مجرور وهو مضاف ، ويمثل حالة قنص أولى لفرصة التحول ، وبدء العدّ التنازلي ، لإمكانية التحقق على المستوى الدلالي

" أقصر الخطوط

ذلك الذي يصل بين نقطتين

أولاهما

في مركز القلب

والثانية

على طرف اللسان "

  فيما تمثل " الحكمة " وهي مضاف إليه ، ثيمة افتراضية لحاجة الصعود إلى منتهى العدّ التنازلي ، الذي يتماس مع المحطات التي يقف عليها بعد كلّ تجربة ، في إطار البحث عن إعمال الصورة ، صورة الذات وجرّها لمواجهة الزمن  وإعمال بصيرة الذات ، وإضافتها إلى الخبرة والحذر والإمتاع الكشفي

" من أنت أيها الشعر ؟

أنا سفرك الذي لا ينتهي

حقولك التي لا تكفّ عن الخضرة والبهاء

من أنت أيتها القصيدة ؟

أنا عذابك المفرح

وبشارة تحمل متعة وجعك العظيم "

   تتحدد بنية الإمتاع الكشفي بفرض حوارية بلورية يقيمها الشاعر بين ذات واحدة ، تظهر في أكثر من صورة ، حيث تجتاح القوة الدافعة للمفردات ، العنصر الميكانيكي للنصّ ، لتشكّل معطى ترتيلي جديد ، يخدم الواقعة النصية ، بإيداعها عبر شبكة من التحوّلات البصرية ، وتتمثل في النسق القطعي الذي ينطلق من أعمدة لغوية إشارية لاقطة للمحسوس ، بدرجة هوائية نفسية أحياناً  ومرئية أحياناً أخرى ، تتصل جميعها في دائرة تحويلية واحدة ، قوامها الكشف

" قميصي ممزّق

وصدري

شارع بلا أزرّة

وأحتاج عوداً من ثقاب

لأشعل غابة الشيب في رأسي

وأطلق عصافير وقاري

وأضيء

مدني المسكونة بالعتمة الوارفة "

   وتبدأ عملية الإمتاع الكشفي في بنية النصّ المخصّب من انشغالها بالقبض على الصفات ، حيث تظهر العلامات الشفوية القادرة على الإمساك باللحظة الراهنة ، والقادرة أيضاً على توريط الجمل ، للكشف عن المسكوت عنه ، ليس في النصّ وحسب ، بل وفي ذلك الوجه الآخر للذات

" إذا كان صمتك في الحياة من ذهب

فما جدوى أن تثرثر هناك

وفوق صدرك تجثم الحقيقة المرعبة

وتحت رأسك

وسادة قُدّت من الصخر والضجر "

   إن جوهر المعنى في هذه البنية ، يمتدّ خارج أسوار المعنى ، لاعتمال النصّ على واقعة محاكاة الآخر ، كونه المؤثر الغيبي لفعل الكتابة ، وهيمنة الجوهر على القشرة النصية ، استناداً على فعالية الإشارة وامتداداتها

" أنا الواحد المتعدد في كرنفال النصّ

وأنا العديد المتوحد في أريج المعنى "

   وإذا كان هذا الإسناد على فعالية الإشارة يوفّر قدراً كبيراً من الهيمنة على الذات في مراحل الكشف  من خلال انشغاله بالمسكوت عنه ، فإن اللغة تتمظهر حول واقعة النصّ المستترة بين طرفي نقيض ، طرف مسموح به ، يستند على إنشاء الغاية الشعرية  وطرف خفي يستند على حرارة المساحة اللغوية التي توفّرها سيمياء الإشارة .

"لم أكن بحّاراً ، ولا رائداً للفضاء

ولم أقطع طريقاً من إملاق

فكيف لي أن أبوح بما " يجعل الولدان شيبا "

إن لم تكن أنت لساني

وعصاي التي أهشّ بها على غنمي

" ولي فيها مآرب أخرى"

   وما بين إنشاء الغاية الشعرية والمساحة اللغوية ، يستدرج المعنى إيقاع الحكمة من مفتاح العمق الأثيري للتجربة ، دالاً على إضفاء صفة الجمع على كينونة الكائن ، لجهة إبقائه الأبعاد غير المكشوفة تحت تأثير الإمداد الزمني للتجربة الذي يخصّ الذات  عبر وسائل رؤيوية متعددة ، أهمها استخدام تقنية الأثر الرجعي

" يا بنيّ

للزمن … ذاكرة

وللذاكرة … أنياب

تنبش بها قبور الموتى

فلا تدع لزمنك

عليك سببا "

   ويتبع هذا الإمداد الزمني للتجربة الخط المستقيم في النصّ المفتوح ، والمتعرج في البنية الإيقاعية ، لإتمام صيغ البناء الإشاري في النصّ الواحد ، كما ويتبع الرؤية السردية لموازنة فعالية اللغة ، وإنجازها لجوهر المعنى

" لا شبيه لي في الفتنة ،إلاي

ولهذا أغفو على شفة النبع

كي لا أرى لي شبيهاً "

   وتتحول مجريات الحكمة من واقعيتها الذاتية ، إلى اقتناص منابع السيرة والتجربة ، التي تحمل في هيئتها التشكيلية لغة ناطقة ، عبر الإسناد الإشاري ، ليبقى الأثر الواحد جامعاً للهيئات النصيّة في تحولاتها البنائية

" من يسافر في الآخر

البحر أم الزرقة

الموج أم الزبد

الغيم أم الندى

قلبي أم أنت

الكل مسافر في الكل

والكل ألحان تؤديها الحياة

في استغاثتها من الموت

لأنه الضدّ الوحيد لصفائها القليل "

 هكذا شكّلت السيرة والتجربة في التصاقها وتمازجها وجبلّتها وتنوّعها ، جمرة واحدة ، حاولت أن تحدد رمادها ونارها ، قوتها وضعفها ، حذرها وطمأنينتها ، قدرتها على الكشف والإشارة في ليل دامس ، وقدرتها على النظر بعين العارف ، من خلال وضع الحقائق في علبة كبريت واحدة ، لها نفس الاشتعال ، وفي محراب الحرارة الشعرية ، لها تحوّلاتها من درجة الإشارة إلى درجة الكشف والإمتاع



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x