أحلام المومياء


 

-1-

أنتظر الآن يدي

من أجلِ زبانيةٍ يأتون

لنقطفَ آخر أحلام

المومياءْ

أتعثّرُ بزجاجٍ خفَّ وشفَّ

رأيتُ أمامي امرأةً عذراءْ

قلتُ أجادِلُها

هل أنتِ شهدتِ غزارةَ هذا الموتِ

على باب حديقتنا

أمْ أنزلتِ غشاوة عينيكِ

وأنسنتِ الصحراءْ؟!

ما زلتُ أشاورُ داليةً

هل تتفقينَ الآنَ معي

ويدي ما زالت تعبثُ بالريحِ

وتنتظرُ الأنواءْ

أنَّ امرأةً عذراءَ

تأنسنتِ الصحراءُ على نصف أصابعها

ما زالتْ عذراءْ

-2-

الشارعُ مطويٌّ في هيئةِ أغنيةٍ

يتستَّرُ خلفَ أنينِ رؤاها

ولدٌ لم يعثر بعدُ على هيئتهِ

ظنَّ الشارعَ خلوَ يدٍ عابرةٍ

والناسُ يمرونَ، وفي نيتهِ

أنْ يلمحَ أمزجةَ الفقراءْ

-3-

مرّوا من بابِ المعرضِ

كانت تتأنسنُ بالريحِ

وهيَ تطاردُ أعينَهم، مرّوا

قال حفيدُ الشاعرِ للبائعِ: هل يلزمني

هذا العقد لدحرجةِ القوس على شرفتها

أم يلزمها أنْ تضبط قلبي لتعيش معي؟!

مرّوا من باب المعرض

قال ابنُ النجارِ معي أشجارُ البلوط

فهل يلزمها ثمر الإيقاعِ

لكي تختزلَ الشارعَ والبابَ معًا؟!

مرّوا من باب المعرض

قال سعيدُ بن أبيهِ

أيامٌ معدوداتٌ

وتضجُّ الساحةُ بالأطفال

فقلتُ إذنْ، نتشاورُ، مَنْ يحكمُ قبضتهُ

ويواري الناس عن الأنواءْ

مرّوا/ مكتنزينَ صلابة روحٍ

أفقدها الحزنُ كثيرًا من دهشتها

مرّوا، إذْ لمحَ البرقَ حضوري

هل لمحَ الغيمُ على سيرتهِ

أبنيةً خرساءْ؟!

لكنَّ الشاعر قال هنا مرّوا غرباءْ

 

ما زالتْ تنظرُ

هل كان عييًا هذا الشارعُ

حين تصابى ولدٌ

ورأى أنَّ يديها جامدةً، والثوبَ قصيرٌ،

والعالَمَ مشغولٌ بالصبّارْ

لم يجرؤْ أحدٌ منهم

أنْ يرسم صورتهُ خلف زجاج الأسرارْ

والبائعُ كان نسيًّا أنْ يحكمَ أزرارَ المعنى

حين رأى أفواجًا تأتي مثقلةً بالأحلامِ

وما كان نسيًّا حين أثار الدهشةَ

في عينِ الأسماءْ

-4-

مَنْ صاغ لها الشَّعرَ الناعمِ

مَنْ أوقفها، والكعبُ دقيقٌ وطويلٌ

مَنْ علَّمها أنْ تشربَ قهوتها مع أخيلة التأويلْ

مَنْ درّبها، حين ترى الإنسان الغلبانْ،

أنْ تحذفَ شيئًا من صلصال يديها

وتماريهِ بنمنمة ِ الريح على الجدرانْ

مَنْ ألبسها خلخالَ الكعبِ

وأبدلها الشمعَ المنحوتْ

مَنْ أوصلَها لغناء التوتْ

مَنْ أخرجها من ثوب التحنيطِ

إلى جوع البلهاءْ!

-5-

هل كانت تدرسُ ليلًا

لتماري فطنتهُ وهو يدبُّ على جبل النحلِ

أمِ المعنى، قالت، فاستترَ الطينُ بقالبها؟!

هل غالبها الحرزُ الشاردُ في بضع دقائقَ

حين تلصصَ ولدٌ من خلف زجاج الأيامِ

وضارعَ فطنتهُ

خلو يدينِ تزيحانِ المعنى

وتصكّانِ على ليلٍ وضّاءْ؟!

-6-

ماذا يحدثُ لو أنَّ يدي قفزتْ من منزلها

واستندتْ فوق النسيانِ

لتعبرَ آخر حقلٍ في الغرفةِ؟

هل كنتُ أدلِّلُ هذي المومياءَ

وأشربُ معها القهوةَ

أو أستلحفُ ثوبي قبل نزول الشمسِ

إلى سيرتها الأولى؟

هل كان يوافقُ ظلي

أنْ ننشرَ في المرآةِ غسيلَ الأمسِ

وننسى أنَّ الإنسانَ بنايةُ هذا اللاشيءِ

أمام تحجُّرِ أمراضِ الشبهةِ؟

هل كنتُ أفارقُها حين تنامُ على ميزانِ

أسرَّتها الحجريةِ؟!

صاح البائعُ: هل تدفعُ أمراضكَ ثمنًا للماءِ؟!

تململتُ، ولَمْ يصدأْ في الرؤيا

بابُ الإغواءْ!!

-7-

وترٌ من شَعرِ حصانٍ

وغبارٌ تحت عزيفِ الركضِ

إلى أمراض قبيلتنا

ما يبدو في المشهدِ

والناسُ على ما يبدو منسيينَ

إذا ناموا غرباءْ!

وترٌ لي

ولهم جائحةُ الريح

إذا نَفَقَ الحرفُ على

سُررٍ من ماءْ!

-8-

كنّا نصطادُ من البريةِ ما يشبهُ

ألحان البسطاءْ!

قالت: أتعودونَ كذلكَ؟!

قلتُ: إذا بسطتْ أذرعها الرؤيا

يجمعنا الموتُ

وتلهينا

الصحراءْ!

قالت: تتفرّقُ عند ضفاف البحر

دواليبُ الأزمةِ، فاجتمعوا

قلتُ: إذا صبروا نفقوا

همْ في الأزمةِ، مردوا أشلاءْ!

-9-

مَنْ يُحسنُ أنْ يقطعَ هذا الشارعَ

ليلًا، ويخبِّئُ ضوء الفجرِ

وينسلُّ إلى أمراءِ الحربِ

إذا ظلّوا أُمراءْ؟!

مَنْ يشوي الصقرَ إذا صاروا طلقاءْ؟!

قالت: تحسبُهم أشجارًا

وإذا هبّتْ ريحُ خماسينِ المرضى

يترصَّدهمْ شبحُ الإعياءْ

يسّاقطُ أوَّلُهم

أو آخرُهمْ في بركةِ إملاءْ!

-10-

سنعيدُ لها سيرتها الأولى

كانت في السوقِ تغازلُ أجنحة البجع التائهِ

ثمّ إذا ما أُوْزِرَ هذا الشارعُ

تستدعي ناقتهُ العمياءْ

وتردُّ على الناس البسطاء:

هل أوزركمْ هذا الشكُّ

وأنتم تعتركونَ الليلَ

وبعضُ قناديلَ على باب البيتِ

تمارسُ لعبتها

مع ضوء القمرِ الناعسِ، هل أوزركم هذا

أم كنتمْ في آخر أيام الجوعِ

تمارونَ السيِّدَ في الأبراج الحمراءْ؟!

ما اجترَّ الخوفُ عمامتهُ الصفراءْ

أبدَ الدهرِ، ولا كَنَّ على سيرتهِ

إذ تتفتّحُ أقنيةٌ في النصِ

على استحياءْ!

-11-

لمْ تأنسْ برصيفٍ في الحيِّ

أمالتْ جذعَ الريحِ إلى ناقتها

والناسُ حيارى يجتمعونَ أمام الفوضى

غمغمَ طيفٌ في آخر بيتٍ

كانتْ امرأةٌ تقشطُ بعض غبار الشارع

عن نافذةِ البيتِ، ولا تنكسفُ الرؤيا

امرأةٌ من ذاتِ البيتِ

ولكنْ لمْ تصبح مومياءْ

-12-

في الداخلِ أطفالٌ منسيونَ

عجوزٌ تفتح بالفنجانِ لجارتها العمياءْ

امرأةٌ هدهدتِ النارَ على مهلٍ

هل ينضجُ خبزُ القمحِ على نارٍ هادئةٍ

أمْ هي أخيلةُ الشعراءْ؟!

في الداخلِ، أيضًا، ما لا ينشدُّ إلى حيلتهِ

في الداخلِ امرأةٌ من صحراءِ الخيبةِ عرجاءْ!

لكنَّ المومياءَ الكبرى

سلّمتِ القصدَ إلى الشعراءْ!

-13-

هل كان الشاعرُ معنيًّا

بمخاض الأحداثِ

وقد أسدلتِ الساعةُ عقربها

أم كان يشدُّ رحال قصائدهِ

نحو المعلومِ من الأحياءْ؟!

هل كان وفيًّا لسؤالِ الحكمةِ

حين ترجّلَ عن رئةِ الأشياءْ

أم كان يحاولُ تعريَةَ الريح،

تعالوا نستفسِرُ عن خلخال الزينةِ

ابنُ الصائغ حتَّ كثيرًا معدنهُ

من صدأ المعنى

والرملُ رفيقُ الماءْ!

ابن الصائغِ طفلٌ تتكوَّرُ خلف يديهِ

هوامشُ بيضاءْ

هل كان الشاعرُ معنيًّا بحمام الساحةِ

وهوَ يلملِمُ آخرَ ما أدركَهُ الحكماءْ!

أم كان يطوفُ وحيدًا يبحثُ عن معنى الثورةِ

في مُدُنٍ ضاقتْ مع كلّ رحابتها

عن جيش الشهداءْ؟

-14-

كانت تتوغلُ من أردية الطينِ إلى حنطتها

تتوزّعُ في الميدانِ على صورةِ أشجارٍ تتلوى

من شدّةِ هذي الريحِ

تعاينُ أضواء المبنى

هذا المبنى لا يرجح تحت حسيس المجهولِ،

ولكنْ ينشطُ، قالوا، إنْ

تتوزّع في المبنى الأضواءْ!

عادتْ لتشكِّلَ ميلادَ الغيم

على سبخِ البياراتِ، وعادتْ من غفلتها

لتواسي أولادَ الشارعِ

كانوا منسيينَ،

وينتسبونَ إلى وترٍ معقودٍ في ناصية الخيلِ

وعادتْ تتشغَّفُ مثل حمامِ الحاراتِ

وتهزجُ بالريشِ

وحنطتُها من أَدَمِ الأرضِ

إذنْ من درّبَها

لتقومَ إلى زمنٍ أعطبهُ الناسُ

وهمْ زبدٌ يطفحُ بالمجهولِ

ومنْ درَّبها، لتقولَ لهم:

هل أغطشَ ليلٌ قافلةَ الدهماءْ!

-15-

التأويلُ جناحُ اليقظةِ، فانتبهوا

انتبهوا، هندٌ تزرع وردتها في الميدانِ

وتهربُ من عين العشّاقِ

وتنسلُ صوف القلبِ، كأنَّ يدي

تمرضُ حين تلامسُ غرَّتها

والليلُ طويلٌ

فانتبهوا

وسعادٌ تخرجُ من أكمام الوردِ

وتركضُ نحو سمائيَ مثقلةً بحنينٍ طارئ

التأويلُ جناحُ القارئ!

فانتبهوا  

لا تفرج مومياءُ الزمن المحكوم

بأمراض قبيلتنا

عن ثدييها، لا تأكُلُ من قمح حواضرها

إذ تأكُلُ من شجرٍ لا يقربُهُ أحدٌ

هيَ بصمة هذا الغصنِ الدَّوّارِ

وأغنيةُ الوروار

وتسريحُ الجِنِّ من المزمارِ

وقبضةُ هذا الإعصارْ

لا تأكل من ثدييها

لو وطأ الجوعُ على أطفالٍ رُضَّعْ

لا تكشفُ عن سرِّ أبيها

 حتى لو أهلكها الدهرُ،

وأثقلها الغرباءْ!

-16-

 غفلتْ عن آخر أغنيةٍ قبل رحيل الأمس

ومرّتْ بالتلِّ، هنا زرعوا وردَ منازلهم،

فاستحكمَ كهفُ الرومانِ، أظنُّ، لهُ

في الداخل سردابًا يتّجهُ شمالًا

ماءً كان يسيلُ على مهلٍ نحو مدرَّجهِ

عند سبيل الحورياتِ، أظنُّ، لهُ

سردابًا يتّجهُ جنوبًا نحو الحصنِ

وعائلةً فردتْ أجنحةَ البيتِ أمام البِرْكةِ

كانتْ تستوردُ ألحانَ اليوم من الحزنِ

إذا نام البؤساءْ!

-17-

وأرجِّحُ حبكتها

التحنيطُ مزارُ الأزمانِ

مساحةُ أجيالٍ في وادي النسيان

إذا انتظروا الحبكةَ

هل في الحبكةِ تطريزٌ لحياةٍ

أوسعها الشكُّ بأنَّ المعنى

يتّسعُ إذا ضاقَ المبنى

أو أنَّ الشاعرَ أوقفهُ في وادي النسيانِ، وماتْ؟!

وأُرجِّحُ حبكتها

لخلوّ الغاياتِ من التصنيفِ

هنا أرجحتُ جدائلها

وهنا ألبستُ يديها

ما يشبه شمسَ حزيران

إذا لَبِسَ العربيُّ على مهلٍ ما خفَّ من الغيرةْ!

وأُرجِّحُ حبكتها

والضوءُ قليلٌ في مدن الأحوالِ

كما أنّ الضوءَ كثيرٌ

لو بللُ المعنى أعطشهُ في الليلِ

مقامُ الصورةْ!!

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x