التناص والتضمين في ديوان - أحوال الكتابة


أحمد الخطيب
 


التناص والتضمين

ديوان " أحوال الكتابة " :

بقلم الناقد : أحمد أبو صبيح

 

   التعامل مع نصوص أحمد الخطيب، يستوجب قدراً كافياً من الوعي والحسّ الشعري، للتوصل لطريق الشاعر، فهو بما يملكه من خبرة في الكتابة: ومعرفة جيدة بما يريد، يقوم بتوظيف مخزونه المعرفي الذي ينعكس على المادة الشعرية  وبذلك يصل بنا إلى مستويات للمعنى ،وفضاء للتخيل في الصورة الشعرية .

   أحمد الخطيب شاعر صدر له خمسة عشر ديواناً ، آخرها " أحوال الكتابة " موضع القراءة هنا ، وفي هذا الديوان يضع الشاعر أمامنا نتاجاً جيداً ومتطوراً من الكتابة  فيظهر لنا رؤيته التي تتسلط على واقع خارجي ، جامعاً بين الخصوصية والعمومية ، مشكّلاً بذلك منطقة استطاع من خلالها تفجير المعنى وتحريكه ، ففي قصيدة المقهى يقول :

" وأنا وحيد بينهم

لا حلم لي

لا ليل تسكنه النجوم

ولا صباحا

هم هكذا ينأون إذ يتحاورون

ويرجعون إلى السدى أرواحا

ليطير كلٌّ باتجاه فضائه

ثملاً ، ويعقد في الدجى

مصباحا "

  فهو عبر استخدام الثنائيات ( ليل ، صباحا\ ينأون ، يرجعون \ الدجى ، مصباحا) رسم لنا مشهداً متقناً ، وهذا المشهد جاء خارجياً فهو يرى ويسمع ما يحدث في المقاهي  ولكنه لا يخوض فيه ، فاعتزل هذا التجمع وصار وحيداً ، ولكنه يعود ليحرك المشهد الخارجي إلى الداخل فيقول :

" وأنا وحيد بينهم

لا أنطوي إن أغلق المقهى

فسيدتي ستأتي ذات أمسية

لتحفل بالذي لآن الحديد له

وأعطاه الندى مفتاحا "

  فالتحريك هنا جاء من رسم صورة موجودة، إلى رافض لها ، مؤمناً في الوقت نفسه بالتغيير .

  ويستخدم الشاعر الصدق الوجداني، للوصول إلى تكوين صورة نفسية لما يفكر به ، ويصل بذلك إلى إفضاء نفسي :

" لها أن تقول

بأني تركت الرياح الكسولة

_ حال وجدت ظلال الخطى في يديها،

وحال وجدت الندى_ لا تشي بالذبول

لها أن تقول

بأني ندبت لها مقلة الموت

حين تجلت على عتبة البيت

بينا ينزّل من غيمة القوس ، قوس النخيل

لها أن تقول

بأني وحيد مراراتها"

  فطبيعة الإفضاء انعكست على البنية الصياغية ، حيث نرى الخطيب قد اتكأ على بنية التكرار التي تسلطت بين ضمير الغائب "هي" و"الأنا" الشاعرة ، حيث تتساوى "الأنا" مع "هي" للوصول إلى التقرير الذي يؤكد الحضور لهما معاً  معطياً لكليهما صفة الفاعلية.

   وعلى الرغم مما تحمله نصوص الخطيب من تلاحم بين الداخل والخارج ، أو جزءاً من الصراع ، إلا أن الخارج بقي محافظاً على استقلاليته ، ولم يندمج مع الداخل :

" لا أريد الذهاب

إلى ساحة فاض عنها النعاس

لا أريد الذهاب إلى الذاكرة

لا أريد التورّط أكثر من عابر في الطريق "

  فقد ظلت الساحة التي فاض عنها النعاس ، والذاكرة ، وعابر السبيل ، محتفظة باستقلاليتها ، وكذلك الذات ظلت واقفة بحقوقها الاستقلالية ، وذلك بالاتكاء على أداة النفي " لا " النافية القيام بالفعل.

  والشاعر في ديوانه يستخدم الحوار ويحركه تحريك العارف لما يريد ، فيقول في قصيدة أحوال الكتابة :

" ها أنت من باب السؤال ؟

أجاب حين أشاح عن وجهٍ نقابهْ

أنا من تعاور ليله

وأتى على سعةٍ بهاء الذات

لم يلمس كتابهْ "

  فالجمل التي استخدمها الشاعر ، إما استفهامية عن حالة معينة ، أو إخبارية لحالة أخرى مقابلة ، وهو بذلك يهدف إلى تعميق علاقته مع النصّ ، محافظاً على لغته الشعرية.

   والرمزية عند الخطيب قد تكون ديناميكية تتصف بالإيحاء ، إذ لا نفهم من الرمز المعنى ، بل معنى المعنى ، كقوله :

" أنا الماء

نسل الغواية

أنا باب هذا الخفاء

وأخفي رهان الصدى

أنا باب هذا السؤال القديم الجديد

أنا كلّ هذا .."

  فهو بذلك أعطانا دلالات حرة يثيرها برمزيته، وبذلك يستفزّ مخزون القارىء بالعودة لما يعنيه الرمز ، ليصل إلى التفسير ، فالماء رمز الحياة والعطاء ، ورمز للغواية كما يقول الشاعر ، فمن أجل الماء قامت حروب ، واغتنت بالماء أمم ، وأي ماء هنا يريد أن يلوح به الشاعر ، هل هو أكسير الخلق ، أم أن الشاعر يريد أن يفضي بنا إلى سراديبه التي يكونها تكويناً صوفياً معيناً ، وطرح سؤال باب الخفاء أيضاً ، وباب السؤال القديم الجديد أيضاً ، يقودنا إلى الوقوف على عتبات الشاعر الصوفية .

  وفي هذا الديوان نقف أمام نصّ مثقف بدرجة عالية ، نتحسس به ثقافة الشاعر الذي وظف هذا الكم من المخزون إلى طاقة دينامية ، بدت أكثر وضاحة باستخدام آليات تناصية متعددة كالاقتباس والتضمين واللإذابة والامتصاص

" مثلما

قد وصلنا زحافاً

على علّة

تنذر الأرض زلزالها "

  فهو بذلك يضع المتلقي في حالة استرجاع للآية الكريمة (إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها) .

" وأنهض من سكرةٍ

حالها

أنني من بلادٍ

إذا التفّت الساق بالساق "

  واستخدامه الآية ( والتفّت الساق بالساق ) ، يضعنا أمام جدلية يتعرض لها المسلون دائماً ، وهو هل يوجد هناك تمثيل للساق التي ذكرت، على أنها ساق الذات ، أم أن التسليم بوجود الساق فقط ، أما الكيفية والتمثيل منطقة محرمة لا يمكن الوصول إليها ، المكان المحدد والبؤرة الضيقة تماماً الذي وضع الشاعر بها :

"ستحتاجنا حين يختال ذئب البراري

ويعصف بالعاديات من الخيل عسفا "

  والعاديات كما وردت في النصّ الكريم ( والعاديات ضبحا * فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا ) .

  فالعاديات كما هو متضح بالنصّ القرآني حددها بزمان معين ، فالشاعر يتكيء بشكل جلي على الموروث الديني ، ملتفتاً به إلى الوراء محاولة منه لإعادة إحيائه ، والوقوف عند زمن القوة ، فهو يخاطب المتلقي الذي يعرف معنى ذلك ، ويشاركه الموروث للوصول به إلى نسغ النصّ :

" لأن هنا ما يعذب قلبي

أنا المبتدا في نشيد الخبر

أقيم سمائي

لأبنائها الكاظمين الغيظ "

  و" الكاظمين الغيظ" وردت في القرآن الكريم ، وهي تتحدث عن فئة مؤمنة من المسلمين ، قال تعالى " الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين"

   فهو يريد تأسيس جمهوريته ، والتي يريدها خالية من الشرّ ، ويريد للذين بها أن يكونوا بصفات مثالية عالية .

" وتساقطوا كالزئبق البري

فوق منازل عطشى ، ولم يسمع لهم

صوت احتجاج الريح في ورق الخريف

وقد تهادى يوم مسغبةٍ

وشيّعه على نبض الحياة أخلّة" .

  والتضمين يبدو واضحاً للنصّ القرآني ( في يوم ذي مسغبة ) ، وهو إكمال لما بدا فيه في المقطوعة السابقة ، أي إتمام للصفات التي يتخيّرها الشاعر :

" ونسيت ذاكرتي على سنارة العثرات

يممت الرماح نواهلاً

لأقيم خلو دمٍ

سماء من نبيذ الخوف "

  في هذه المقطوعة يضيف الشاعر التواصل التاريخي والمحدد بالبطولة إلى الموروث الديني، ولكننا لا نرى الموروث المحدد بالبطولة في النصّ الأصلي ، وهو كما نعلم لعنترة محدد بنفس المنهجية ، لكننا نلمس الانقلاب في الرؤية ، حيث تطفو على السطح الروح المنكسرة للشاعر :

" لا ماء في ملكوته

لا غاية لسقوطه في البئر

لا سيارة ستمرّ تبحث عن عطارد"

  والروح المنكسرة عند الشاعر تستمر في هذا المقطع أيضاً بدمجه الموروث الديني مع الأسطورة ، للتأكيد على الانكسار الذي يعيشه الشاعر ، وفقدانه لبصيص الأمل ، ومن خلال ما تقدم نجد الخطيب قد استخدم التضمين القرآني بشكل واضح في بعض النصوص ولكنه لم ينصص أي من المستخدمة علّه بذلك يترك للقارىء مساحة لمعرفة ذلك ، وإذا غاب عن القارىء استحضار النصّ ، فأعتقد أن بإمكانه فهم النصّ دون الرجوع للنصّ الأصلي ، وهو بذلك يخاطب عقليتين في آن واحد .

  وفي بعض القصائد نرى الشاعر قد أخذ جزءاً من آية أو حديث نبوي وأدخله في السياق ،بحيث كان الاندغام بين الجزء والسياق في الصورة الشعرية وأصبح جزءاً منها :

" ولد ولم يلبس مرارته

ولم ينذر عشيرته "

  وينذر عشيرته وردت في النصّ القرآني ( وانذر عشيرتك الأقربين ) ، فالشاعر دمجها في نصه ، بحيث تصبح جزءاً منه  :

" الصلاة على وقتها في السجال معي

والحياة التي لا أراها تجانب نفسي

وإذا قلت للموت مهلاً معي "

  وكما نرى فالشاعر يستخدم أيضاً جزءاً من الحديث الشريف ، مدمجاً إياه في متن النصّ ، وها نحن نقف أمام شاعر متملك لأدوات نصه ، وهو واقف على أرضية الرفض والتجديد ، من خلال قصائده في متن ديوانه الذي بين يدينا :

" أشتهي أن أجبّ المعاني القديمة

عن ساحلي

وأقيم الولاية في الشعر

باباً جديداً

أنا حارس الصوت في الناي

حارس أورادنا من تقلب هذا الزمان " 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x