شفافية منازل الروح في ديوان مقام المليحة

 

        الكتابة الشعرية طاقة غياب مغايرة لفعل الحضور، فهي تمثل

خلاصة  السائل  اللغوي  لسبك  خصائص عالية تتصل بالفضائي من

المتشابه،  وهي  تمثل  أيضاً  رؤية الغياب المشتعل في النصّ الكوني

وهي  رؤية  تنتج  عن خصوبة  في  المعرفة  بدرجة ذبذبة المفردات

واهتزازها،  لهذا  غرق  في حوامة الصور بحثاً عن جمهرة الانجذاب

التدريجي لآلية الاحتراق والتجلّي.

 

          ضمن  هذه  الآلية  تبدو  الرغبات  على  درجة عالية  من

الكشف،  حيث  تتصدّى  لإنزال  الأحوال  عن  برمائية  اللغة   في

أشكالها  الواقعية  والمتخيّلة  ففي  كلّ  نصّ  شعري  رغبة ما تحتل

بدورانها  الأثيري  كياناً  لا  وجود  له على مائدة الواقع، ولكنها على

درجة  عالية  من ارتباط الغياب المغاير  لفعل الحضور، والذي يشكل

في حيواته حضوراً أقوى من الحضور.

 

 

          هذه  هي  منطقة  الوسط  الشعري  الذي  يشتغل عليه الشاعر

  عبد الله رضوان في ديوانه " مقام المليحة" (1)

 

       تشكل   الرغبات   وهي  العناصر   الجاذبة    لطاقة   النصّ

الشعري، حالة الانفعالات المسيطرة على الحواس في لحظة الكشف

عن الروح وما وراءها،  وستدفع  هذه القراءة الرغبات لتصعد من

خاصية تحاصن المفردات،  لتشكل  مراتب الصعود إلى نافذة اللغة

كمنطلق تكويني جمالي،  بحيث تصبح مادة  جغرافيا الداخل فضاءً

لطيوف البنائية الشعرية للأحوال.

 

      إن غياب الأحوال  في مسيرة المقامات " مقام المنخّل،  مقام

الهوى  مقام النبع،  مقام الإطفاء"  يدفع بالذات  إلى  إيقاظ حيواتها

الدنيوية  من  خلال  انبعاث  مرتبة القلب في مسالك اليقين المنفتح

على دوال الحضور الماضوي، حضوراً  يتصل بالإمداد التصريفي

للقول  والإشارة والفعل، قول الذات البدهية المتورطة  في  تشفيف منازل الروح،  وإشارة  الوجود  الواعي  لحضور قوس الرغبات،

وفعل الحواس لقوة وإمكانات التشابه بين عالمين متماثلين ومتحدين

في  واقع  ماضوي  متخيّل  وواقع  مرئي، من حيث التقائهما على

إيقاع  السائل  اللغوي  المندفع  من  تشابه الأحوال، وكلاهما فضاء

 

مداري  واحد  له  نفس  اليقظة  والتماس  الحرفي تصريف الغاية،

حيث تقصر المسافات ولا تعد ذيولاً لممشى، بعد أن تصبح الرغبة

المحمومة  وسيلة  إدراك  كما  هو الحال في  "مقام المنخّل" والذي

يشكل الغياب في مراتبه حضوراً أقوى من الحضور.

 

              " بيديّ رقَصتُ المليحة

زغردتْ

خذني بحضنك

ضمّني

بجنونك العالي

لأحيا

ما مسَّ جلدي

غير جلدك ضمَّني

وتوترت أقواس جيدي

فكأنني لغة تلمُّ شتاتها "(2)

 

      ويمثل مقام المنخّل  إثبات صيغة الارتداد إلى الداخل، بطريق

العقل  في  محاولة  للسيطرة على  مساحة  الأمل  الذي  يلجأ  إليه

الشاعر،  لغايات  تقريب إيقاعية  المكان  والزمان  معاً،  من خلال

الانفتاح على بوابة الذات، وهي تنادم سربية الحرية: حرية تمارسها

باجتراح الواقع تحت ضغط الزحام،  حيث  تتصاعد بنية القناع عبر

جملة  الإنقطاعات  التي  تتكشف  عن هذه الحرية،  وينكشف معها

عمق القلق الذي يسيطر عليه  وهو  في  أوج  انشغالاته  بترقيص

الأنثى، المكان، النصّ، النصّ الشبيه، مفردات الحياة وجوهرها.

 

            " فَلَقَ النهارُ صباحَه

فلقاً

كأنّ الشمس تضحك لي

عليّ...

على كلامي

بيديّ رقّصتُ المليحة

وانتهيتُ إلى ...

حطامي" (3)

 

    ومع تصاعد بنية القناع في محاولة للخلاص من الضغط المحيط

بلغة  الإنكشاف،  يبدأ  رضوان  بمراوغة  الرماد الكامن في النصّ

بطريق القلب، ليقدم معاني  الحقيقة  بعيداً عن ذهنية اللفظ واحتوائه

للمجرد من الكلام،  حيث  تعرج  قوة  المواجهة  أمام  هذا الضغط

باتجاه  معادلة  الذبذبات  ليتجلى  سرُّ الكشف عن مآل الوجود، من

خلال  استخدام  الشاعر  لكلّ  ما دقّ  وخفي  من  نظرية مزاحمة

الأشياء، حيث تبدو الصور عليّة  في  مقاماتها كونها المسيطر على

بنية   جغرافيا  الداخل التي  تتصل بالصفة  الأثيرية، والتي تتصل

بدورها بالذاكرة الشعرية اليقظة المتجهة إلى فضاء المعقولات ببيان

عضوية الارتباط بين القناع والرماد من خلال صحوة الحواس على

المحيط بكافة تجلياته وانتمائه للرغبة المشتهاة في " مقام الهوى".

 

            " هل كنتُ أحلم في الضحى

أم أنها

حضرتْ

فأشرق ظلها

ما بين شوقي

في المنام وصحوتي "(4)

     ورغم هذا الانتقال في رتب المقامات، إلا أن الشاعر عبر هذه

المسيرة  المكثفة  والقلقة  يتأمّل الذات  وهي تسعى إلى إبراز جمل

اليقين  التي  تتضح  بين  النوم  والصحو،  نوم الذات عن الغيرية،

وصحو الجوارح وهي تفرض وجودها على مساحة الفاصل الكوني

 

والزماني،  الذي  يفصل  بين  النهاية كإطار تأمّلي، والبداية كإطار

استرجاعي للمقام الأول.

            

            " وأنا بريءُ الروح

مندهشٌ هوًى

وأصيحُ

شوقاً غامضاً

فتفرّ لي رغباتها الأولى

وأبتدىءُ" (5)

 

       ويستثمر " مقام النبع"  هيئة النصّ الكلّي في رؤيته الإحاطية

لجهة اتصاله بالقرائن، قرينة الجهة التي تتفرع عنها الرغبة المحمومة

" الصلة  بطريق  العقل"،  وقرينة المسافة  التي تتفرع عنها الرغبة

المشتهاة " الصلة  بطريق  القلب"،  حيث  تعملان على إيجاد وسيلة

نقل  محوري للغة النصّ والتي ينمو  في انزياحاتها منولوج خاطف

وقادر على  اللسع  المعنوي  لجهة  توزيع المقامات  من جديد على

طيف وجودي واحد قادر على استنباط  الصعود  من  مراتب الحياة

والأحوال بطريقة الروح.

                         

                " لكِ الشمسُ تشرقُ

              والهواء يوزع الأزهار بستاناً

لخطوكِ

في الطريق إليك

كانت الدنيا تلملم فرحتي

وأنا أفيض بحبك العالي

كأنّ لحناً شارداً

في برّ هذا الكون يدعوني لنبعكِ

مستحماً بالحياة

مطهراً مثل مهر حمحمتْ شهواته

اكتظتْ جنونا"(6)

 

       إذن هذا الانسحاب من خاصية  التأمّل  ينطلق  باتجاه تأثيث

الروح  بواسطة  الذاكرة  المشبعة بإشكالية الحياة، لهذا يستمر مقام

الإشباع  بأنسنة  الموجودات  التي  ستعين الشاعر على الولوج إلى

مقام المعية، النصّ الغائب.

 

                 " وأدور

                 في الطرقات أسألُ

                 من رأى منكم حبيبي

              فيقول زهرُ الدرب

مرّت من هنا خطواتها

فتورّدت بتلات روحي

فرحةً زهراً جميلا"(7)

     هكذا  تستقرّ  المقامات  في " مقام  الإطفاء" مقام المعية حيث

تبدو  رغبة  الإشباع  النصي   وعودة الخيط  السريري إلى الذات

أكثر قدرة على الولوج إلى صيغة مغايرة الإشارة،  ويبدو هنا فعل

النصّ  فعلاً يقينياً  وشريطاً لطواف الحيوات حول جمهرة الغياب،

ليصبح النصّ قابلاً للكشف والبوح دون تردد عن  السرّ  في  مقام

المليحة.

 

                " مطفأ...

مثل قنديل زيتٍ

أضاء الحياة

إلى أن تلاشى

مثل قلبٍ يجفّ

فماد عاد يخفقُ

إلا ارتعاشاً

على حلمٍ ضاع

              عمرٍ يفرّ إلى موته

             فيطير فراشا"(8)

 

يمثل  هذا الديوان  حركة إيقاعية نصيّة لقنوات الحواس، وهي

ترقى في مراتب الصعود لإحراز المعية القائمة بين جغرافيا الداخل

"صورة  اللغة"، وجغرافيا الخارج " مناخ  المعنى " في إطار إنشادي

ممتلئ  بالانفراد  والتميز، وممتلئ  بخصوبة  المفردات التي تسعى إلى

أن تعيش حياتها المركبة، وهي تشكل نصاً تتكامل فيه جاذبية المادة

تشكيلاً  لم يقترب  من خياله  وانفتاحه على  الوسط  الشعري  أحد

من قبل،  نصاً  مسنوداً  بقوة الرغبات  وشهوة  الإيقاع  بعيداً  عن

صخب الواقع وتفرعاته.

 

      ويمثل  أيضاً تجربة انفتاحية  ذات رؤى تتماثل فيها الصفات،

حيث  تبدو  رئة  المكان  وحواشيه  في خلوته  مع الذات،  مساحة

لاجتلاب  أنثوية  التنفس ،  بداية  من  تداخل  الحواس   وانتهاء    بإيقاظ

الرغبات على  لغة لها  بناؤها  الرقمي  الذي  يتماشى  مع مراتب

الصعود في مقامات التحوّل.

 

                   " ويكتظ دفء

                   وعشق

                وخمر

وضحك

ونوم ألوف

وأنفاس تعلو

وتعلو

انتعاشا"(9)

___________________________

1_ مقام المليحة : ط1 دار اليازوري العلمية،عمان2004

2_ مقام المليحة ص11+12

3_ المصدر نفسه ص17+18

4_ المصدر نفسه ص21

5_ المصدر نفسه ص41

6_ المصدر نفسهص755

7_ المصدر نفسه ص71

8_ المصدر نفسه ص87

9_ المصدر نفسه ص93


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x