يستند
النصّ الشعري على فعالية
المفردة، من حيث هو فعل مواز
لكلّ انشاءات الكلام،
منذ أن تنضاف المفردة في حركاتها
وسكناتها إلى
جاراتها، في محاولة لتشكيل طيف متخيّل يتواءم مع ما
يختفي وراء
مكنون الذات، كذات مغايرة تتلمس
انثيالات الحالة
المختزلة في عباءة
الرؤى.
وفي هذا السياق يتنبه النصّ الشعري إلى أنه
لا تقام له مساحة
للتأمل والقرب
من البناء العضوي المتكامل، إذا لم
يضبط سلالته
الكامنة في
جينات اللغة كحاضن
افتراضي لأي فعل انشائي،
يصدر عن تعالق
فضاءات القول بحثاً عن المغايرة التي تجترح من
ميتافيزيقية
المتخيّل أسرار نواميس الوجود والذات.
من هنا يلجأ المبدع إلى إجراء تماس وقائي بين المفردة وجاراتها
إلى أن
تصل إلى عقد
هدنة بينهما، لغايات الولوج إلى
حدقة
المعنى والشكل.
ثمة
صيغة مفترضة لبناء النصّ
الشعري، تتبدّل عند البدء
بممارسة فعل
البناء، وهي تقوم على قراءة
الموروث ومعالجته،
والمعاصر
ومجايلته بدءاً من
كونه نصّاً معمّداً بالقول،
وانتهاء
بضبط سلالته في
إطار النصّ المفتوح، وإذا ما سلّمنا بهذا
الإطار،
فإننا عندئذ
أمام خيارين مهمّين
في لحظة التماس
مع النصّ
الشعري، مهما
ابتعدنا عن مضمار
القول كنتاج واقعي،
إما
الانفتاح على
الأثر من خلال وجهة النصّ اللغوي، أو الانفتاح
على الأثر من خلال
زاوية الرؤيا، والحيرة التي لا تضارعها حيرة
في تبنّي أحد هذين الخيارين، تكمن في صعوبة الوصول إلى الأسرار
الكامنة لفعالية
النصّ، من حيث هو شاهد
على الذات، وناطق
باسم الشعرية،
وهنا تبرز الحاجة الميكانيكية
لقراءة الإشارات
الكهربائية التي
تعمل على تحويل الثابت
كمادة إشارة لغوية، إلى
متحرّك فعّال
ومضيء.
ولمحاولة
استقراء الأثر من خلال زاوية
الرؤيا في " كتاب
السيدة"(1) للشاعر والناقد
المبدع عبد الله رضوان، سنحاول قدر
الإمكان متابعة
تشكيلات النصّ الشعري في فضاءاته المختلفة، من
واقع تحريك المفردة
باتجاه السمو إلى مقام القرب من ذات النص.
إن
ماهية الكشف الشعري تتمثل عند عبد
الله رضوان في
خلق اتجاهات جديرة لحركة المفردة،وهي تمضي إلى جاراتها،فهو
يؤنّثها ويذكّرها حسب
مقتضى حال الجمل، ومردُّ
ذلك كلّه
إحساسه العميق بالتمازج
الغريب بين المفردات كأداة توصيل
وحركتها كمادة فعل،
مما يخلق حسّاً
عالياً في القصائد يتمثل
بالاقتراب من التمثيل الفيزيائي لحركة خلايا النص.
" وأقول باسمك
أبتدي هذا النشيد
نشيديّ الأزليَّ
أهتفُ:
يا أعزّ الناسِ
أقربهم إليْ
فادخلي كلماتي إذن
وادخلي جثتي"(2)
هكذا يرصد عبد الله رضوان قلق المفردة التي لا
تستسلم
بسهولة، إلا لمن عبر أوجاعها وانثناءاتها وتعرجاتها
وانقباضها
وبسطها، مثل الصوفي الذي يرقى في خلواته إلى
لحظة الكشف، أو
لحظة التماهي، ولكنه
يعي تماماً أنه
لا خلوة تحيط بالوجود
الكشفي، إلا بعد
أن ينزع عنها طينة
الشكل، لهذا يستحضر
المفردات الوقائية التي لا تحمل إلا وجهاً واحداً لمعنى الوصول.
" شيءٌ ما
يعترض الأفقا
شيء ما أشعلنا قلقا
شيء مرَّ بنا... ما
نطقا"(3)
وإذا كانت
المفردة التي لم
تتشكل بعد في
إطار النصّ
الشعري، تستعصي على
إطلاق سعتها، في
بداية البناء، فإنها
سرعان ما تسلّم قيادها لجارتها في
فضاء التماس الموازي
لفعل
النصّ، لهذا يبدأ عبد الله رضوان بمراوغة المفردة، وإعادتها لسيرتها
الأولى، في محاولة لرسم خلية النحل في فضاء اليد المطلق، اليد التي
تهمّ بمحاكاة اللسع، أو تطلق
أصابعها باتجاه لهب الشمع، ليتحسس
ماهية النار وتشكّلاتها بلا خوف.
" يومان لم
تقطف يدي خمائلها
يومان لم يركض جوادي في براريها
يومان لم تهمس شفاهي باسمها علناً
يومان لم أرها
يومان لم تحترق
شفتي على فمها
يومان لم تغز شراييني
يومان لم أعشق
يومان لم أحرق"(4)
ويتكى عبد الله رضوان في
بنيته اللغوية على حالتيّ الأخذ
والعطاء، من حيث
استقطاعه للفرع ( الجزء) في
حالة الأخذ،
واستخلاصه للأصل ( الكل)
في حالة العطاء، تمايزاً يشبه دورة
الجنين في محطات
نموه، وتكامله، وشغبه، ولكن هذا التمايز لا
يرتهن للجنس بقوة
ارتهانه لفعالية الحجّة والإثبات، إثبات الذات(
النص) بالمواجهة والتكامل،
وممارسة الولوج إلى أكثر المناطق
وعورة.
" حسناء لا تتراجعي
هي فرحة اللحظات نسرقها من العمر الرّدي
فتجمّعي...
وتداخلي في أضلعي
وتجمّعي...
ثم انثريني قبلة في النحر،
... لا تتراجعي"(5)
وإذا كان النصّ الشعري يتكىء على حالتيّ الأخذ والعطاء في
المنظور التأولي، فإنه يتكىء
أيضاً على تماثل الصفات،
بعيداً عن
مُسكنات المنطق التي تتعالق كثيراً بكونية الظاهر، فالتجمع
والتداخل في مسعى دائم لتعميق
آلية الكشف عن قدرة المفردة في
تجاذباتها واقترابها من مقام القرب
في سدرة النصّ الشعري، ينضاف
إلى ذلك استدراكها
لبنية المغنطة، والتي
تحمل الطاقة الكهربائية
التي يعمد عبد الله رضوان إلى تحويلها من نقطة
متباينة صامتة إلى
فعالية فيزيائية متحركة،
لغايات تفجير الشحنة
الكامنة في استدعاء
جاراتها.
"
جسدي حبّة كمثرى قابلةٌ للفتك
جسدي حبٌّ وتعاريج
جسدي مملكة للشكّ وأسئلةٌ
عند حضور العشق
... تهيجُ" (6)
ومع استقرار
مفردة عبد الله رضوان الشعرية على
هذه
الصيغة التوافقية، تبدأ
محطة فرز المسمّيات،
لهذا يبدأ ضبط
سلالتها، أصولها، ومكوناتها
( النفسية والحسية والاقتصادية)،
اقتصادية مآل المفردة وهي تدخل في سماواتها، وإطلاق سعتها، بعد
استقرارها في خلوة
الكشف، مع جاراتها،
وانتشالها من عاديتها
باتجاه تلوينها حسب مقتضى الحال الشعري.
" من
فَلَقَ الرمانة ليلاً
وأباح كواكبها
من هتك السرّ
وأطلق في الضوء مفاتنها
لكأنّ الرمانة قلبي
وكأنك داخلها" (7)
إذن يبدو النصّ
وكأنه ينفتح على
هذا التمازج الغريب، في
تبيان مفاتن المفردات،
بعد أن كشف
رضوان أسرارها، وعصب
قوتها، وهي تتواءم في تشكيل خارطة
من الخلايا الحيذة، ولكي تحقّق
لعبة التوازنات عمودياً
مع رؤيته للمفردة_
وهي تخضّب رياشها
بالألوان التي تتسق
مع كاميرا جوانية
الشاعر _ يسعى أفقياً مع
مساحة الكتابة لإبراز حالة التلاشي التام
في الصفات، بحيث تصبح
المفردة هي المُنشىء
الحقيقي للنصّ بعيداً
عن كلفة التصنّع،
واستدراج الخيوط الوهمية
في تقارب غير حقيقي للمفردات، من
هنا تبدو رؤيته أكثر وضوحاً وجرأة، في الولوج إلى مجاهيل ذات
المفردة أينما تتمغنط.
" سوّت
جديلتها على أفق السحابة
كاعبٌ من غُسلها انتفضتْ على عجلٍ
فيا ويلي
قد ألهتْ الدنيا ببهجتها
وقالت :
هيئتُ لك
ما أجملك " (8)
وعلى الرغم من هذا الاستدعاء
الخفي في لعبة التوازنات بين
المفردات، تكمن "أنا الشعر" في
الكفّة الأخرى لميزان "أنا الذات"
التي تظهر في نصوص رضوان
الشعرية في مقام القرب، حتى لا
تكاد تفرّق بين أنا الشعر وأنا
الذات، وكلاهما عصبٌ تنويري لبناء
نصّ متكامل فالنصّ
لديه دائما محمول على وعي الشحنة
الكامنة
في المفردة.
" يا مساء الشفة المشتبكةْ
يا مساء الدهشة الأولى
مساء العاشقين
ومساء اللحظة المشتركةْ "(9)
إن هذه
اللحظة المشتركة خاضعة
لصوت شعري خاص،
ينتمي إلى الكشف
عن عصب المفردات،
لهذا يبقى رضوان
مشغولاً في نصوصه
بالبحث عن معايير
جديدة للمفردة، فيمدّ
أصابعه في دائرة
الاحتمالات ليغرف منها
ما يتفق مع العنوانات
والأسماء والمسميات، أشجار
الكلام ( الأصول والفروع)
ولا
يكتفي بالإمساك بالمفردة
كحالة بدائية للولوج إلى النصّ
كحاضن،
بل يمرّرها إلى
غرفة الإنعاش والتحقّق، ليحث
كوامنها ونوازعها
للانطلاق إلى سعة التخيّل.
" وديعٌ
كحقل فراشٍ
ألوفٌ إلى الروح
مبتسمٌ
مثل شمسٍ وراء الغمام تداعبُ طفلة" (10)
وللحيلولة دون ابتعاد
المفردة عن بؤرة تمغنطها، وانفلاتها في
لحظة مشاكلة عصب
النصّ، يفرد مساحة
للنهوض، ويقيم اتزان
الحصى في مجرى
الأصابع، ويعمل على سعة إطلاق المطلق، في
عملية تبادلية خاضعة
لأنا الشعر بسبب
المتغيّر والثابت، مما يتيح
للمفردة سعة الإطلاع
على مزايا جاراتها،
وأهليّتها للمشاركة
ضمن رؤية إسترجاعية
لكثير من معطيات
الحليب قبل تمازجه
برغوته الأولى.
" ما الذي
يجعل للفكرة شكل القُبّرة
فتثار الأسئلة
وتصيرُ...
تارةً دُنيا
وطوراً آخرة"(11)
ولانسياب الضوء
عبر كوّة المفردة في ذاكرة النصّ،
تأتي
غواية الإنزياح الذي
لا يرضى بالواقع شكلاً
ومنطقاً، فتبرز لغة
كوْنية بحاجة إلى توليف من نوع
خاص مع الباطن، وهو القبض
على مهرّبات اللغة، من هنا يتمحور
نص عبد الله رضوان الشعري
حول إضاءة جديدة
تنفذ إلى ماهية العلاقة بين اللغة ( مادة الحياة
وانشغالها) وبين مرايا
المطلق للمفردة، لهذا يسعى إلى حقن الفخذ
اللفظي بقطبيّ السالب
والموجب، ليكون التناسل مشاكساً ومميزاً
على بثّ إشعاعاته
بكافة الاتجاهات ( اتجاهات النص)، لتخرج
الأسئلة الكونية من بؤرة توترها اللغوي.
" ما الذي
يجعل الأرض واسعةً
ثمّ تضيقُ فتصبح مسكونةً بزفيري
ما الذي يجعل القلب سوسنةً...؟
فيجتمع العشقُ فيهِ
ويملؤه فرحاً ثمّ يذوي ويهوي كحلم الفقير
ما الذي يجعل الأرض تفاحةً..؟
تحبّ، فتخفقُ، ثمّ تعود ترابا"(12)
وتمضي المفردة في طريق
تعمذدها بماء الشعر، إلى تفتيت
مكوّنات الواقع وترجمته،
متخذاً من عصب النصّ مستنداً
لتوفير
طاقة إضافية للمفردات،
تكشف عن فضاءات أوسع، منطلقاً إلى
مقاييس جديدة في
أنسنة المفردة، وبعث
الجامد منها إلى سياق
المتحرك ومحاكاة المكوّنات النفسية لها في حال ارتباطها مع مفردة
أخرى.
" بأصابع
من فضةٍ
فتحتْ أزرار صدري
وأخرجتْ خافقي
نفحتْ فيه من روحها
فتمايل في حضرة الحبّ
ثمّ هوى...
أسيراً إلى حجرها"(13)
عند الوصول أو التماهي في
مقام القرب، تستريح مفردة عبد
الله رضوان راضية مرضيّة بدخولها إلى جسد النصّ الشعري، حيث
تتنامى الصورة الفنية الكلية، لتصل
في النهاية إلى المخرج المتنامي
للقصيدة، ضمن محورين خاضعين لقوّة وتأثير المفردة، محور إيقاع
الصور الشعرية الصاعدة إلى قمة المُعطى
الجمالي، ومحور إيقاع
المضمون الذي يعتمد
في أكثر الأحيان
على التسلسل المنطقي
للبناء، ومردّ ذلك
كلّه التحليق عالياً
بتتبع المفردة منذ
تسلّقها
أسوار النصّ، حتى
دخولها مقام القرب
وانتشالها من عاديتها،
والسير بها إلى
جمالية مطلقة مسوّغها الشعري اقتناص الصورة
واقتناص المضمون من الحياة التي تحياها " أنا الشعر في أنا الذات
"
في فيزيولوجية القلب والروح معاً.
" يا امرأة
مثل حلم عاصف
تخترقين القلب
تغيّرين تضاريس الذاكرة
هكذا بلا مقدمات تنفجرين خريطة في القلب
تتشعب فيك شرايين الحياة
فتولد الأسئلة" (14)
هكذا إذن
وبلا مقدمات تبرز
أنا الشعر في ثوبها
الجديد، بالتماس العلاقة بين الكائن المتوحّد في تربته المكانية، وبين
الاشتهاءات التي تتوزّع في البؤر الزمنية لجهة اقتدارها على نقل
المحمول اللغوي.
" المرأة
الريفية
المرأة الريفية البيضاء
المرأة الريفية البيضاء المتمردة
عشقت...
فغرقتُ
فيا لعيون
النبع الذي غرقت فيه" (15)
وتتكفل أنا الذات
باستخراج كنوزها في مقام القرب،
المقام
الذي تكتمل في
مفاتحه رؤية الأرض، وهي تفصّل أجوبة الشاعر
بحثاً عن أسئلة المفردات وهي تتنامى إلى أن تصل إلى
النصّ الكلّي.
"
عاودت الأرض سؤالاتها
أيها الشاعر... أيها الشاعر
أين تسكن السيدة
نهض الشاعر من صمته
أشار إلى قلبه
إلى جيده
إلى رأسه
إلى يديه
إلى ساقيه
إلى سرّته
إلى أصابعه
إلى بدنه
أشار إلى كلّه وهمس
هنا... هنا... هنا... أيها الكائن
هنا تسكن الملكة
فابتسمت الأرض، وأخرجت أزهارها" (16)
_______________________________
1_ كتاب السيدة
: ط1
المؤسسة العربية للتوزيع
والنشر بيروت
1999
2_ كتاب السيدة ص9
3_ المصدر نفسه ص13
4_ المصدر نفسه ص14
5_ المصدر نفسه ص27
6_ المصدر نفسه ص37
7_ المصدر نفسه ص55
8_ المصدر نفسه ص64
9_ المصدر نفسه ص73
10_ المصدر نفسه ص85
11_ المصدر نفسه ص101
12_ المصدر نفسه ص120
13_ المصدر نفسه ص139
14_ المصدر نفسه ص171
15_ المصدر نفسه ص202
16_ المصدر نفسه ص207