الشعرية المُتحرِّكة وأثرها في المستوى القرائي المُتغيّر

 


الفصل الثاني

الشعرية المُتحرِّكة

وأثرها في المستوى القرائي المُتغيّر

 

 

شعرية المجتمع:

 

   الولوج إلى حضرة شرائح المجتمع، والنهوض بأعبائه في قالب شعري، يعد السمة البارزة في ديوان " عشيات وادي اليابس " لشاعر الأردن مصطفى وهبي التل " عرار "

   لم يترك عرار إيقاعاً أردنياً متحركاً أو ساكناً، إلا عزف على أوتاره، في محاولة لنمذجة الواقع الأردني، وشحنه بالجماليات، متخذاً من الموقف الثابت هوية غير قابلة للإمحاء، وغير قابلة للنقض، مستعداً من أجلها للمواجه والنفي والاغتراب.

   وإذا كان هذا العزف وقفاً على الشعر عند كثير من الشعراء، فإنه في مواصفات التجربة العرارية، عزف يتوافق مع الذات والشعر وما بينهما.

 وإذا ما أردنا أن نحرك الشعرية التي اتسمت بها التجربة الشعرية الأردنية، بمختلف أنماطها، فإننا سنهتدي إلى تسمية شاملة لكلّ هذه الحركات وأصلها، وسنطلق عليها " شعرية المجتمع "، لما لهذا التسمية من حراك، نستطيع من خلاله الكشف عن الهوية الشعرية لأيّ شاعر.

   يبدأ الوعي بشعرية المجتمع، من قوة الانفتاح الداخلي على مجمل مكوناته، وسعي الشاعر إلى تأسيس عالمٍ موازٍ  يستطيع من خلاله   إيقاد شعلة السير والمواجهة.

إن الزمان ولا أقول زماني     

                    بين الطوابع والرسوم رماني

وأحال لذاتي وساوس حاس     

                      يهذي بضرب ثلاثة بثماني

فانظر إلى الندمان كيف تفرّقوا

                  بعدي وكيف علا الغبار دناني

وإلى قريضي كيف أصبح تافهاً

                  وإلى بليغ القول كيف عصاني

وإلى أمانيّ العذاب يسومني     

                    سوط الحساب مهانة العبدان

  إن قراءة متأنية لهذا الانفتاح على بؤرة تمركز الذات، ستقدم لنا قدرة كاشفة عن هوية شعرية المجتمع، فهي، أي شعرية المجتمع تبدأ من التضاد النفسي، لكي تستطيع أن تحمل تبعيات المواجهة، فاختراق قانون الذات، هو مؤشر على السير في طريق التقاط أدقّ التفاصيل التي تحيك ثوب المجتمع الداخلي والخارجي، كما أنه وعي بحقيقة ما يترتب على هذا الخرق، من متخيلات قادرة على إقامة التوازن بين عالم الواقع والعالم الموازي.

فالكأس لولا اليأس ما هشّت لهُ   

                        كبد ولا حدبت عليه يدان

والخمر لولا الشعر ما أنست به  

                       شفة الأديب وريشة الفنان

يا جيرة البان ليت البان ما كانا  

                     ولا عرفنا بواد السير خلانا

أو ليتنا كلما طاف الحنين بنا 

                وسامنا من ضروب الوجد ألوانا

وعادت النفس تذكارات صحبتكم

                    نستطيع تعزية عنكم وسلوانا

   لكن هذه الرؤية المتمثلة بالهزيع النفسي، هي رؤية احترازية لغايات المواجهة، التي تفرض على الذات أن تكون عارية تماماً من البسط الداخلي، ومعها تكون مهمات البحث عن مفاصل المجتمع، في البنية النصية، مهمات سلوك استنفراي غير خاضع للمواراة.

يا مدعي عام اللواء وخير من فهم القضية

ومناط آمال القضاة وحرز إنصاف الرعية

ليس الزعامة شرطها لبس الفراء البجدلية

فيفوز عمرو دون بكر بالمقابلة السنية

والعدل يقضي أن تعامل زائريك على السوية

   أليس هذا المحمول على بساطة اللغة، هو واقع شعرية المجتمع، القائم على طرح البنية الموضوعية دون تزويق، ودون لبس، وهو ما يحتم على المتلقي، أن يفكر بما وراء الوعي الذي لم ينطق به الشاعر، خشية الاستئناس به، والنزوع عن القضية الأولى لشعرية المجتمع.

بين الخرابيش لا عبد ولا أمة    

                        ولا أرقّاء في أزياء أحرار

ولا جناة ولا أرض يضرِّجها      

                          دمٌ زكيٌّ ولا أخاذ بالثار

ولا قضاة ولا أحكام أسلمها   

                   برداً على العدل آتون من النار

ولا نضار ولا دخل ضريبته   

                     تجنى ولا بيدر يمنى بمعشار

  إن جملة المتغيرات التي تطرأ على المجتمع وسلوكياته، ويراقبها الشاعر، تعتبر المنفذ الوحيد له، للولوج في حضرة العالم الموازي  بانعكاساته التي تلزم الشاعر بماديتها، وتلزم المتلقي بما وراء هذه الماديات، من هنا نكتشف أن مادة التحريض هي مادة تفعيلية، لجهة اتصالها بالمنفعل \ الشاعر \.

سكر الدهر فقل لي كيف أصحو    

                        والندى يبخل والجود يشحُّ

وأنا يا سيدي الشيخ كما     

                  قلت عني حيث ينحو الحب أنحو

وحياتي لا تسل عن كنهها         

                        إنها حان وألحان وصدحُ

وأماني شباب فاتها                

                     مثلما فات بني الأردن نجحُ

  ويبدو هاجس المجتمع منسجماً مع ما يبطنه الشاعر وهو في حالة سكر، ربما تكون حالة مادية، أو معنوية، فتحت ضغط ما يتناهى للشاعر من منغصات اجتماعية، أو يرقبها بأمَ عينه، تبقى ذاته الإنسانة في غياب دائم، وذاته الشاعرة في حضور دائم.

 قد قلوت القيل والقال وما      

                       ليس لي عنه غنى أو منه ربحُ

 ونذرتُ الصمت لما قيل لي       

                          من يقول الحقّ يؤذى ويدحُّ

 أنا إن أصمت فصمتي حسبه        

                             أنه صوت الأرقّاء الأبحُّ

 أيها الباكي على أوطانه            

                            لا يردّ الروح للميت نوحُ

 بارك الظلم وصفق للأذى          

                             فهما نصر من الله وفتحُ

   غير أن هذا التنافر بين الصمت ومقولة الصمت، الذي يقود الشاعر للبوح لا للنوح، طاقة إنفراجية للمعنى الأزلي الذي يسعى إليه الشاعر  

          

  بهدوء تام، في محاولة لقراءة ذات النصّ وذات الشاعر معاً، لشدة وقوعهما تحت  تأثير المنجز الكلامي الذي يستسلم إليه الشاعر بعد أن يكون قد أسقط آخر ورقة توت عن شجرة المارقين على المجتمع.

يا أردنيات إن أوديتُ مغترباً         

                          فانسجنها بأبي أنتن أكفاني

وقلن للصحب: واروا بعض أعظمهِ

                     في تلّ إربد أو في سفح شيحان

قالوا قضى ومضى وهبي لطيته   

                      تغمدت روحه رحمات رحمان

عسى وعلّ به يوماً مكحلة         

                          تمرّ تتلو عليه حزب قرآن

   ويبقى شاعر شعرية المجتمع واقفاً كالطود، أمام متغيرات الحياة التي تعصف بمجتمعه، مناهضاً عن إنسانية أبنائها، غير عابئ بالعصف الجسدي والنفسي، حتى آخر رمق، إذ يكفيه قبر ومغفرة وزائرة تتلو عليه ما يؤنس روحه، ويهدهد سريرته.

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x