شعرية الاغتراب في ديوان هواجس طائر الوقت

 


شعرية الاغتراب:

 

   لا تفارق قضية الاغتراب مهاد الشعرية العربية، منذ أن كان الكلام منطق الطير، وحامل أسراره، وهي تتسع كلما اتسعت الرؤيا وضاقت العبارة.

  الصورة الحيّة التي يتعامل معها الاغتراب، صورة الهاجس،لما يحمله من حنو الذات على القلب، منبع الحساسية، ومنتج مؤثراتها.

    ومع أن الهاجس محمول شفوي، والكتابة الشعرية فضاء لغوي إلا أنه يملك من القوة المغناطيسية، ما يجعله أكثر قدرة على حكّ المعطيات، والاستئناس بها.

   والهاجس في  ديوان " هواجس طائر الوقت " للشاعر عمر أبو سالم، هو العنوان الأصيل والحامل لقصبات الاغتراب، والكاشف عن ميادينها، ومسالكها المؤلمة.

   تستلهم الغربة والاغتراب الذهن وما يعتمل فيه من الرؤى، من خلال قدرته على نسج التداعيات التي تفرزها أيقونة الوحدة، حيث يصبغ المفردات بلونها الضبابي في هاجسه الأول، لتخطي عقبة العزلة التي يفرضها عصب الاغتراب.

 

أعود على طائر الوقت

أفتح بابي للريح

لكنني لا أصادف غير الجهات

تفرّ الدهاليز

أسمعها تتراكض دون التفات

تحدق بي أعين جاحدة

وأصوات من عبروا الجسر قبلي

تكلّمني بجميع اللغات

  هكذا تبدأ القصيدة باستحداث جملة من المعطيات، لتحصين الذات أمام هذا الواقع الجديد، ومن الطبيعي إذن أن تشغل نفسها بمرتبة الهواجس، انطلاقاً من مخيلة قادرة على بثّ روح الالتقاء.

وحيداً على وجعي سرتُ

حولي المدارات ضيقة، والخرائب ماثلة والطلول

يطوف بها الصمت، توشك أن تداعى شواهدها

لا الصدى ردّ حزني

وحتى الحجارة ما احتملت صرختي

والمدى قاب قوسين من ذعره

قلت يكفي ابتليت بهذا الرحيل

  إن الإشارات الناطقة في الهواجس، تختزل الدلالات من منظورها النفسي، لهذا تعبر قصيدة الاغتراب كافة المدوّنات التي تنتجها الحالة الآنية، للظهور على شاشة مجهر الذات، كونها ذاتاً متأصلة في العناق الجذري للفرع.

أين يسلمنا الدمع

هل من سبيل لنجمع أحزاننا في إناء؟

فأرى وطني في عيون الصغار

قبلة يورق العمر فيها

وعاشقة تتدثر من خوفها

في ليالي الشتاء

   وبعد هذا الظهور لا يتبقى أمامها، سوى أن تتمنى طاقة فرجٍ واحدة، وسبيلاً يمنحها رؤية واضحة لكلّ ما حولها، وهي توشك أن تعزف على قوس ما تبقى من العمر.

نار بجوفي

والحريق يحيل هذا الليل من حولي

جراحاً ناغرة

وحدائق الحبّ الذي طرحته أيامي

بلا ثمر

عقيم كلّ صيف أرتجيه

كلّ الدروب قطعتها ركضاً

فما أبصرت وجهي في الزحام

ورؤى السنين الهاربات تبددت خلفي

خيالات مضت في كلّ تيه

وحدي أمرّ على الليالي

أرتجيها الأمن

لكني أعود

والخوف ملء القلب، أسوار تعالت والحطام

هو كلّ ما أبقى لديّ العمر من وهم

وقد رحل الغمام

   ومن الجلي أن يتأبط الشاعر في رحلته أحزانه، لا ليسامرها فقط  إنما لتكون سنداً له على مواجهة طاحونة الرعب، لهذا يلجأ الشاعر إلى بثّ عصارة داخله، من أجيل تحصين الذات في عتباتها الأخيرة  ولا يأتي هذا التحصين إلا عبر حيوية اللغة التي تختارها شعرية الاغتراب.

للمرايا أحاديثها آخر الليل

أحلامها في الظلام

واشتعالاتها في انكسار الزوايا

على كلّ ركن قصيّ تناثر في البوح

عبر رماد الكلام

ولها من رؤاها الأليفة ما يوقظ الروح

حين تنام

  إن وجود هذا الارتباط الحيوي، بين الذات وما تنتجه من نصّ فضائي للأحلام، لهو دليل على قوة إدراك المحسوسات التي تمرّ بها شعرية النصّ، في اغترابها الزمكاني والنفسي.

وعدت في يدي قطاف هذه السنين

بقية من النشيد المرّ في فمي

بعض احتراق في دمي

وآهة في الروح ظلها على الجبين

أنا هنا.. لا توصدي في وجهي الأبواب

يا ومضة مهتاجة تندى عروقها من الحنين

  وإذا كانت العودة في قصيدة الاغتراب، مشروطة بترتيب الحواس لظلها الأول، القائم على الكشف والإدراك، فإنها مشروطة  أيضاً بإتمام عملية نقل الداخل المضيء، من خلال تفقّد الموجودات.

عدت من حيث أتيت

فلم ألمح سواي

لون وجهي باهت

صوتي ينادي كلّ من أسمعت

لكن لا مجيب

غير قلبي

وحده الغارق في صمت المكان

  عندئذ تكتشف الذات غربتها، فتسلّط  الضوء على بؤرة واحدة، بؤرة في محاراتها ما يقي العمر، أو ما تبقى منه  جنون التشرد، فتبدأ بتوزيع مياه النبع من جوفها المتقد، ليمحو الضياء السواد.

وأجمع قلبي،

أوزعه شجراً ودمي أنجماً

    وهكذا نلحظ أن هدف الشاعر من وراء تحييد الأنا، إشاعة الحسّ الجمعي القادر على ضبط معطيات الاغتراب، تلك المعطيات الغامضة التي تفرزها وجهة الغربة، ومرايا العودة.

يورق الضوء فيه

فيا امرأة ساقها الليل لي مطراً

لست أقوى على الصحو من حلم

أنت فيه الضياء الذي سوف يأتي

ويمحو السواد.

 

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x