خلية القصيدة

 

خلية القصيدة

 

   خلية النحل تتشابك بالقدر الذي يسمح لها أن تمتصّ كلّ رحيق الوردة   ، وبالقدر الذي تستطيع فيه أن تحمي نفسها من مؤثر خارجي كالمتطفلين من البشر  أو مؤثر داخلي كشوكة سيقت إلى جانب وردة وخلية القصيدة بانسجام مفرداتها   ، ومجاورة اللغة للإيقاع   ، ومحاكاة الصورة للتراث والواقع   ، وانشغال الرمز بتشغيل طاقة الفكر   ، وانبعاث الحواس على تراب المتخيّل في المجرى الكلامي تتشابك لتقدّم نتائج غير مرئية على شاشة الواقع

 

الواصف بن محمود

     

      أنا الواصفُ بن محمود انبعثتُ من تراب النثر البري قبل خمسين سنة   ، وداهمتُ نفسي تشقّ قميص الحياة من قُبُلٍ  فربّتّ على كتفيها   ، ظنّاً مني بأن قيمة الانبعاث في القُبُل   ، ومارستُ في حياتي طقوس الهروب من مواجهة الذات   ، لم أكن موفقاً في القراءة والكتابة   ، غير أني لممتُ من شتات اللغة قوة الحضور   ، تركتُ الدراسة   ، ولجأتُ إلى العمل مع والدي في حرث البساتين والحقول   ، لم يكن يزعجني صرير المحراث حين يصطدم بصخرة أو حجرِ غافٍ تحت التراب من الزمن الحجري   ، بل كانت تثيرني رؤية الحصان الذي لا تروق له قوافل النمل   ، رغم لجامه المشدود   ، وصوتهِ المؤود
     أنا لا أقبل القسمة على اثنين  ، لهذا لم تفلح كلُّ معارك وحروب والدي في سرير الحياة على إنجاب غيري من الذكور  ، ولكنني توسّطتُ خمس بناتٍ  ، لم
يستطعن على سحب شاشة رؤية والدي عن طلّتي وعبثي ودلالي .
     وحيداً حملتني خفايا الردى من بساتين أبي  ، إلى حيث الحارة السفليّة  ، مستنداً على رغبتي وبكائي على جملةٍ لم أصنها  ، وحيداً  ، وقد عزّني خوفي بالخطاب  ، فلم أكفل أبي وبناته الخمس.
     سفحتُ دم الأرجوان على كلّ شبر من الأمنية   ، وخطتُ لي من لدن طاقة الفراغ ثياباً لجنةٍ لا أراودها عن ثمار الحقيقة  ،وسقتُ البلاد كمائن للنوم والانتظار  ولم أفز من اسمي سوى بأل التعريف التي ألصقها بي والدي  ،وحينما سألته ذات وجدٍ عميق عنها  ،قال لي هي حرزٌ من الضياع   ، ولكنني ها أنا ضعتُ في أغنيات الصدى .
    لم أتزوّج  ، رغبةً في الخروج من الفكرة المقبلة  ، غير أني تركتُ لها أن تقيم خيالاً على كلّ لوحة ريحٍ
تهبُّ من العنفوان  ، الطيور التي تحطّ ضحى فوق أغصان بيتي  ، حارسي ورفيقي  ، وصوتي الذي كان
يغري أرجوانه   ، تلك التي أسلمتني لحياتي وموتي   ، أحيا بها حين تغشى مقامي هنا في الحارة السفلية   ، وأموت على إثرها حين تغشى رحيلي القديم
    أنا الواصفُ بن محمود   ، تصالحتُ مع طلّتي في انشغال الحصان بقوافل النمل   ، حين جفلتْ من سياج الحديقة   ، فأفلتها أبي من لجامها كي تبوح بأسرارها للتراب   ، هاأنذا أمرّنُ طاقة المحراث   ، على أن تعاين أسبابها في الصدأ   ، وأدخلَ في جملة من شهود الكلام  كلام القصيدة .

 

سلوم بن ثابت

 

    أنا سلوم بن ثابت ولدتُ تحت هدير الخسارة والهزائم   ، وأخرجني خوف أمي   ، وهي تتسلل مع العائلة عبر الطريق الذي خطّه العابثون   ، طائر الحديد الذي في السماء   ، لم يترك مجالاً لأبي   ، لكي يحيا ليسمع زقزقة النار في صوتي  أو ربما كان أبي قد أراد البقاء   ، ليسقي حوارات أجداده منذ أن كانت البلاد بلادي
    لم تحافظ أمي على نقطةٍ من دم الزعفران  ، وهبتني لصائدٍ مرّ في غفلةٍ عن كلام الزمن  ، ورحابة نفْسي الصغيرة
   زوج أمي  ، وعلّمني أن أموت تباعاً بعد كلَ حياة   ، ولكنني في الكلام الأخير من الجملة الضائعة   ، تكوّرتُ مثل شمس حزيران وها أندا أمرُّ كما الريح في عصبة المفردات  ،جامحاً في دم الزعفران   ، وملتصقاً بالتراب الذي نام فيه أبي   ، ليسقي حوارات أجداده
   أنا سلوم بن ثابت
مرسل المفردات إلى واقع لم يعد واقعاً

 

سعيد بن السراج

 

   أنا سعيد بن السراج دافع الماء في ورقة التوت  ، ومنجز آلية الخطى في مجرى الكلام  ، تخطّيتُ خماسينية الشتاء بثلاثة فصول  ، ولم أكلّم السرير إلا مرتين
   في الأولى تطاول اليباس إلى جذع روحي  وعمّدني بالفراق   ، فانكببتُ على إرث جمرة شوقي  ولم أستفق على بياض الثلوج   ، إلا في المرة الثانية على باب الحارة السفلية الجنوبي   ، حين هزّني ذلك الخلخال الذي في الخفاء
   أرجوانه شرفتي للضمير
 وأبي كان يخشى عليّ من الزمهرير   ، ومن لغات المصير   ، وها أنذا أخرجُ من السياج   ، إلى بؤرة في سراج القصيدة .
    أنا سعيد بن السراج   ، الملقب بالمكوجي   ، أدفع الماء في عروق القصيدة   ، وأطوي الطريق  

 

محمد المازني

 

  أنا الشيخ محمد المازني أبو المنقذ صاحب العمامة الخضراء   ، وحامل أوراد جدي   ، تقلّبتُ ثمانين حولاً على جمرةٍ في باطن اليد   ، ولم أنتبه لغسيل الكلام   ، تعرفني الطريق وحصاها   ، وتعرفني الديوك وتعرفني الشجرة   ، حملتُ نشيد المعارف منذ أن جاءني صوت رؤيا البلاد   ، وكان لي شاهد من دمي حين فاضت على جنب جنبي روح أخي حين كنّا نطاردُ خوف إخواننا في العواصم
     جمرتان لي في فضاء البيت  ، كنزان من لؤلؤ وحرير  ، وضحى لا ينام قبلي  ، وأحملهم في دعائي وأوراد نفسي.
   ولي في فضاء بيتي الكبير
 مريدون  ،
لا يغيبون عن خاطري في الكلام   ،
ولا عن ناظري في المنام
وأحملهم في رجائي وخوفي
 ولي في كلّ يومٍ من الأحوال
ما أن تنوء بهِ الجبال
 

كامل العويني

 

   أنا كامل العويني الملقب بأبي الوداد كنتُ في رحلةٍ تجارية للحارة العلوية   ، عندما أفرغت حقدها أساطيل الشرّ على قريتي   ، حاولتُ أن أستردّ مقامي ولكنّ التراب المعفّر بالنار والدم والهزيمة حال دون الرجوع إلى النفس   ، تجعّدتْ فيَّ سبعون ناقة من الألم والقلق والحيرة على أهلي
   بحثتُ في الحارات العلوية عن خطابي الأبدي بعد أن نكست الأعلام   ، فلم أجد أثراً   ، انحنى ظهري   ، وتجزأت رئتي   ، وبللني الفراق بغيمه الرمادي   ،
     أنا كامل العويني صاحب الهزيمتين   ، وعابر الحارات بحثاً وإيقاعاً ورعب   ، رفيق الطيور والحمائم إلى طمأنينة الحياة   ، ومنقذ رياشها
 

دراقة

 

   أنا درّاقة بنتُ عشرين صدراً   ، وقابضة الجمر في مخلب الطريق   ، وناهد الطين في لوحة الشهوة   ،
أعيش تحت قبضة الفستان والتنورة   ، وتواليل أصابع أمي التي أرهقتها الإبر  ،
أعيش كلّ يومٍ على حلم من خفاء الفكر  ،
وأصطاد حبر الغرور
   أنا دراقة جملة الإعصار   ، وساكنة الليل   ، ومحور أسئلة أهل الصفوة   ، وبوح حياة رجب   ، وقارئة الليمون
 تتجاذبني الأحوال من حالٍ إلى حال  ،
من نون النسوة عند الكاشف في مشعل قنديل الليل  ،
إلى نون الوقاية تحت كلام رجب
   أنا دراقة رفيقة المجرات في الجو   ،
وضاربة الأعناق في الشتات

 

أرجوانه

 

     وأنا أرجوانه أرملة الثأر   ، وعاقرة الحطب الصحراوي  لم أهدم نفسي من أجل حضور الذات ولم أترك حبل سريري ليلاً   ، إلا من أجل فضاء الكاهل  
   أعوزني البيتُ  ، أمي لا تبصر شيئاً قدّام أخي  ، هذا الأهوج والقابع في نار الشغب  ، أتعبها المشيُ إلى قضبان السجن  ، حين تعود وتلهج أقبضُ إصبعها وأغطيها  ، وتنام على حيرة طفلتين
  خالي جملة طين في قبضة زوجة  ، سيّدنا  ، والخاتم في إصبعها


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x