خرج
الواصف من غرفته الجنوبية ، وفي يده منجل
الوقوف على بواطن الثمر ، ومن عادته أن
لا يباغت الطيور على أغصانها ، كان يلوي لسانه
بالصفير ، لتحذيرها أو محاكاتها ، وكان دائماً يقول بأن الطيور هي فحولة الثمر ، وكاشفة ذرّها ، وصاحبة نضجها وحلاوتها وملوحتها ، وهي العصب الأثيري الذي يقاوم الرياح ، ويحتفظ بهيبتها وعلوّ شأنها ، لهذا كان يستشيط غضباً إذا لمح أحد الناس يرميها
بحجر أو يزعج قيلولتها بإثارة جلبة حول بستانه.
انحدر الواصف إلى
يمين البستان ، حيث الخيمة التي نصبها
فيما مضى لأهل الصفوة ، لكي يقضوا ليلهم
بلعب النرد ، أو كشف ستائر أهل الحارة ، وضع منجله على كرسيّ من القش ، واسترخى قليلاً على حصيرة زرقاء ، أدار مفتاح الراديو باتجاه اليمين ، جاءه صوت رخيم مشبع بالثقة الذابلة
_ قرر الحكماء في
جلستهم التي عقدوها مساء أمس في مسرح الدمى ، أن يربطوا رياح الحارات السفلية بحبال الأمل ، وقرروا على فتح جبهة من التفاؤل المتشابه ، إلى جانب اختيار الحارة الجوانية مكاناً
لانعقاد الدورة القادمة ، في زمنها
المحدد شهر شباط
تنهد الواصف ، وغمرته ضحكة أرجوانية وهمس للطيور
_ شباط ليس عليه
رباطاً ، فيه تتقلّبُ الفصول والأحوال ، وشمسه تمشي على استحياء
بدأتْ جمرة القصيدة تنفخ من صداها رياح التوجه
الخفيّ الذي يقود الواصف ، وبدأتْ علامات
الأسئلة أكثر عياناً على الحواس اللاقطة لكلّ ما يلوح في الأفق.
أيُّ سراج معك يا رجب ، وأيُّ هالةٍ رعويةٍ ، تلك التي تحيط بمفردات اللقاء الأوّل ، وأيُّ حبالٍ تلك التي تخرجُ من رؤيتك ورؤاك ، لتشدّ بها كلّ من لاح في مجالك المغناطيسي.
طفق الواصف بعد ذلك الاسترخاء ، بإزاحة الحصى من دوائر الشجر الترابية ، الحصى التي يرميها الصبية باتجاه الطيور في
غياب الواصف ، أو الحصى التي تأتي بها
مناقير الطيور.
_ عليك باختزال الحصى ، في دائرة جوفية ، تحت لظى الشمس ، وعليك بفتح المجرى الغربي لإشعال السراج
صورة موشّاة بزمنين ، زمن الاشتغال على العلاقة الإنسانية التي لم
يكترث لها الواصف فيما مضى ، أي قبل لقائه
برجب ، ذلك اللقاء الذي شقّ الواصف نصفين
وزمنِ المعطيات التي تبدأ في ذاكرته من اختزال الحصى ، وترقيقه.
_ كيف لي أن أختزل
الحصى ، وفيها من التشابه ما يعجز
الذاكرة ، أليس بالإمكان ترقيقها على
وجهة واحدة
_ إذا أردتَ استرسال
القوى الكامنة في ذاكرة المكان والزمان ،عليك
أن تبدأ بحصى الطيور ،ترتبها على شكل
أيقونات رعوية ،وتنهض بها في ضحى الانحسار
والتشظي ،ثم تعمد إلى حصى الصبية ، وتغسلها بماء القصيدة ذات ضحى دموي
دائماً يفرد رجب في محاوراته الفكرية أقواس
قصيدته ، بإيماءةٍ لا وضوح فيها ، سوى انهمار الحدث على الذاكرة الشعبية ، التي يألفها الناس البسطاء ، وهيَ إيماءة على مرمى قوس الموقف وتبعات
المعطى الشعري ، هذا القوس الذي يشكّله
قول الرياح ، وفعل الغيم ، بعد أن تكون الشمس قد ولجتْ في مقادير اللقاء
.
مسألة ليست بالهينة ولا بالصعبة أيها الواصف ، ولكنها تحتاج إلى ممارسة الصحو ،حتى في جهات النعاس ،أنظر إلى أبي المنقذ ،هذا الشيخ الستيني عندما يدخل إلى الجامع
الكبير ،يبدأ بمراقبة حراك المصلين ، كبيرهم وصغيرهم ،غنيّهم وفقيرهم ،قويهم وضعيفهم ، ثم يضع عكازه على جدار المنبر ويجول بعينيه
في مساحات الجامع ،بحثاً عن صيغة ما
للمقاربة الذاتية ،
وعندما يتأكّد من
حضور الغياب وغياب الحضور ، يصلّي ركعتي
تحية المسجد
إذن عليك بالانتباه إلى الحصى وفرزها في إطار
معادلة أبي المنقذ ، لتستطيع أن تدخل في
لغة القصيدة ومساحاتها ، وعليك الانتباه
أيضاً ، إنّ حضور اللغة يعني غياب
المضمون ، وحضور المضمون يعني غياب اللغة
، ضع هذه المعادلة نصب عينيك وسترى كيف
تختزل الحصى .
0 Comments: