بوابة القصيدة

 

  خرج الواصف من غرفته الجنوبية   ، وفي يده منجل الوقوف على بواطن الثمر   ، ومن عادته أن لا يباغت الطيور على أغصانها   ، كان يلوي لسانه بالصفير   ، لتحذيرها أو محاكاتها   ، وكان دائماً يقول بأن الطيور هي فحولة الثمر   ، وكاشفة ذرّها   ، وصاحبة نضجها وحلاوتها وملوحتها   ، وهي العصب الأثيري الذي يقاوم الرياح   ، ويحتفظ بهيبتها وعلوّ شأنها   ، لهذا كان يستشيط غضباً إذا لمح أحد الناس يرميها بحجر أو يزعج قيلولتها بإثارة جلبة حول بستانه.

انحدر الواصف إلى يمين البستان   ، حيث الخيمة التي نصبها فيما مضى لأهل الصفوة   ، لكي يقضوا ليلهم بلعب النرد   ، أو كشف ستائر أهل الحارة   ، وضع منجله على كرسيّ من القش   ، واسترخى قليلاً على حصيرة زرقاء   ، أدار مفتاح الراديو باتجاه اليمين   ، جاءه صوت رخيم مشبع بالثقة الذابلة

_ قرر الحكماء في جلستهم التي عقدوها مساء أمس في مسرح الدمى   ، أن يربطوا رياح الحارات السفلية بحبال الأمل   ، وقرروا على فتح جبهة من التفاؤل المتشابه   ، إلى جانب اختيار الحارة الجوانية مكاناً لانعقاد الدورة القادمة   ، في زمنها المحدد شهر شباط

تنهد الواصف   ، وغمرته ضحكة أرجوانية وهمس للطيور

_ شباط ليس عليه رباطاً   ، فيه تتقلّبُ الفصول والأحوال   ، وشمسه تمشي على استحياء 

  بدأتْ جمرة القصيدة تنفخ من صداها رياح التوجه الخفيّ الذي يقود الواصف  ، وبدأتْ علامات الأسئلة أكثر عياناً على الحواس اللاقطة لكلّ ما يلوح في الأفق.

  أيُّ سراج معك يا رجب   ، وأيُّ هالةٍ رعويةٍ   ، تلك التي تحيط بمفردات اللقاء الأوّل   ، وأيُّ حبالٍ تلك التي تخرجُ من رؤيتك ورؤاك   ، لتشدّ بها كلّ من لاح في مجالك المغناطيسي.

  طفق الواصف بعد ذلك الاسترخاء  ، بإزاحة الحصى من دوائر الشجر الترابية  ، الحصى التي يرميها الصبية باتجاه الطيور في غياب الواصف  ، أو الحصى التي تأتي بها مناقير الطيور.

_ عليك باختزال الحصى  ، في دائرة جوفية  ، تحت لظى الشمس  ، وعليك بفتح المجرى الغربي لإشعال السراج

  صورة موشّاة بزمنين  ، زمن الاشتغال على العلاقة الإنسانية التي لم يكترث لها الواصف فيما مضى  ، أي قبل لقائه برجب  ، ذلك اللقاء الذي شقّ الواصف نصفين وزمنِ المعطيات التي تبدأ في ذاكرته من اختزال الحصى  ، وترقيقه.  

_ كيف لي أن أختزل الحصى   ، وفيها من التشابه ما يعجز الذاكرة   ، أليس بالإمكان ترقيقها على وجهة واحدة  

_ إذا أردتَ استرسال القوى الكامنة في ذاكرة المكان والزمان  ،عليك أن تبدأ بحصى الطيور  ،ترتبها على شكل أيقونات رعوية  ،وتنهض بها في ضحى الانحسار والتشظي  ،ثم تعمد إلى حصى الصبية   ، وتغسلها بماء القصيدة ذات ضحى دموي

   دائماً يفرد رجب في محاوراته الفكرية أقواس قصيدته   ، بإيماءةٍ لا وضوح فيها   ، سوى انهمار الحدث على الذاكرة الشعبية   ، التي يألفها الناس البسطاء   ، وهيَ إيماءة على مرمى قوس الموقف وتبعات المعطى الشعري   ، هذا القوس الذي يشكّله قول الرياح   ، وفعل الغيم   ، بعد أن تكون الشمس قد ولجتْ في مقادير اللقاء .

   مسألة ليست بالهينة ولا بالصعبة أيها الواصف   ، ولكنها تحتاج إلى ممارسة الصحو  ،حتى في جهات النعاس  ،أنظر إلى أبي المنقذ  ،هذا الشيخ الستيني عندما يدخل إلى الجامع الكبير  ،يبدأ بمراقبة حراك المصلين  ، كبيرهم وصغيرهم  ،غنيّهم وفقيرهم  ،قويهم وضعيفهم  ، ثم يضع عكازه على جدار المنبر ويجول بعينيه في مساحات الجامع  ،بحثاً عن صيغة ما للمقاربة الذاتية  ،

وعندما يتأكّد من حضور الغياب وغياب الحضور   ، يصلّي ركعتي تحية المسجد

    إذن عليك بالانتباه إلى الحصى وفرزها في إطار معادلة أبي المنقذ   ، لتستطيع أن تدخل في لغة القصيدة ومساحاتها   ، وعليك الانتباه أيضاً   ، إنّ حضور اللغة يعني غياب المضمون   ، وحضور المضمون يعني غياب اللغة   ، ضع هذه المعادلة نصب عينيك وسترى كيف تختزل الحصى .


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x