ملامح القصيدة الحراك الرابع /

 

 النشيد

 
  تلاوة الإيقاع الصوتي للقصيدة بين المفردات   ، أمرٌ ضروريّ لحساب سرعة الزمن بين انطلاقة المفردة الأولى ومواكبتها للمتغيّر الواقعي   ، وبين التحامها مع المفردة المتخيّلة   ، وتنشأ عن هذه التلاوة رؤية ذاتية لكلّ من يعبر الخطّ الفاصل بين السكون والحركة   ، من هنا كان لا بدّ من اعتماد سيمياء أخرى لحركات القصيدة في منحى التطوّر الذي تعيشه   ، وفضاء آخر للمفردات   ، ولا بدّ من تشفير الخطاب الشعري   ،الذي لا يطال الأستاذ رجب .  
    سلمان أبو الحكم صاحب طنمبر الكاز المتجوّل   ، القابض على مهرة النفس   ، كما يقبض على لجام الحصان   ، والحامل لختم المخترة   ، يعرف كلَّ صغيرة وكبيرة في الحارتين السفليّة والعلويّة   ، ويعرف أسماء العائلات   ، ومن أين جاءت   وإذا ما أراد مدير مركز التموين التابع لوكالة الغوث منعم الطحاوي أن يستفسر عن أحوال أسرة ما   ، من مات منها   ، ومن بقيَ حيّاً   ، كان يلجأ إلى أبي الحكم
   لم تكن تضيق ذرعاً عبلة زوجة أبي الحكم بالنساء اللواتي يقصدن زوجها  ،لختم ورقة ما  ،أو لاستدانة مبلغ ما  ،وما يرافق هذه الزيارات من قهوة وشاي وأحياناً نبش سير الحارة ومشاكلها وهمومها  ،إلى جانب احتشاد النميمة والغيبة في عروق بعض المتطفلات   ، بالرغم من تحذيرها لهنّ عن الكفّ في الأعراض   ، واللعب في سكينة الناس .
_ ألا يكفي اليهود الذين هجرونا من بلادنا  ، ألا تكفي القلّة التي نعيشها بعد أن تركنا ديارنا
   في المساء عندما يعود المختار سلمان إلى البيت   ، ويربط حصانه إلى جذع دالية البيت   ، تتلقفه النسوة كلٌّ لها في الحاجة رمح مرهون بختمه   ، فيقضي ساعاتٍ طوال   ، وهو يعاقر الورق دون تفحّص   ، إيماناً منه بأنّ ما من أحد يقصده إلا وقصّته لا يطالها الغبار والشك   ، وبعد أن ينهي   ، تكون عبلة قد جهّزت له الماء الساخن .
  وقبل أن ينهي عشاءه   ، كان زائر السؤال المرير يدقّ بابه
_ تفضل يا منعم حماتك تحبك
_ سبقتك يا مختار   ، صحتين وعافية
وبعد أن زرد أبو الحكم عشاءه   ، وجاءت امرأته بإبريق الشاي قال أبو الحكم
_ خير يا منعم
_  ما هي قصة اختفاء الأستاذ رجب؟
  تلكأ أبو الحكم بالإجابة   ، وضغط على أعصاب قدميه
_ عِلْمي عِلْمَك يا رجل  ، الذي أعرفه أنه ذهب للعمل
_ هذا يعني أنه لم يمت
_ ومن قال لك أنه مات 
_ يجب أن أعرف الحقيقة  ، حتى أكتب في سجلات الوكالة
  لم يدرك أبو الحكم أبعاد هذه الأسئلة   ،
_ يا رجل إنس  ، وخلينا بالأهم
_ وما هو الأهم من اختفاء الأستاذ رجب
  لفّ أبو الحكم سيجارة الهيشي  ،بَرَمَها  ،ضغط على قناتها الورقية  ،وأشعل عود الكبريت بعد أن تفل ما علق في فمه من بقايا الدخان
_ أن تعملوا في المركز باباً آخر للنساء  ، يا أخي لا يجوز أن تختلط النساء بالرجال
_ هذا الأمر بحاجة لموافقة الوكالة   ،
   وبعفوية وبساطة الهجرة ذاتها قال أبو الحكم
_ ولماذا لا توافق الوكالة؟ منذ زمن وأنا أحثّك على الكتابة لوكالة الغوث
_ حبال الوكالة طويلة   ،
_ ولكن يجب أن تكون حبالك قصيرة وأنت ابن الحارة
   لُجِمَ الطحاوي أمام هذه المواجهة   ، وقف مستأذناً   ، وقبل أن يغادر قال لأبي الحكم
_ المهم عندما تعرف مصير الأستاذ رجب  ، أرجو أن تخبرني بذلك
   وبلهجة الندية الواضحة قال أبو الحكم
_ وأنت عندما تعرف ماذا قررت الوكالة بخصوص الباب أرجو أن تأتي لتخبرني بذلك
    بدأتْ المقايضات تأخذ بالانتشار   ، وبدا كلُّ شيء وكأنه رُتّبَ لرجب للولوج في عالم القصيدة   ، وربما كان اختفاؤه سبباً في هذا الانتشار   ، إذ أنَّ تعاليمه لا بدَّ لها أن تنضج في سلّة المقرّبين   ، وبالتحديد مع الذين كانوا على صلة لصيقةٍ بهِ قبل اختفائه   ، فها هم الواصف وسلوم والمكوجي والمختار قد بدءوا حياكة ثوب القصيدة كلٌّ من جانبه الإيقاعي   ، لتوفير بنية ترتيلية للنشيد.  
   لا بدّ لمجموع الإيقاعات أن تتشابك من أجل إبراز القوى الداخلية للنصّ   ، ولا بدّ لها من أن تسلك حنجرة واحدة   ، ليكون الصوت في فضائه الواحد مَعْلَمَاً دالاً على الرمز ومشتقاته   ، لهذا كان لا بدّ للواصف من الاتصال بهم عن طريق عدنان ابن الأستاذ رجب  
   لكلّ بداية أن ترسم ملامحها ومنهاجها   ، الواصف الذي جعل منه اختفاء رجب حارساً لتعاليم القصيدة  لم يأذن له أحد  ،غير أنّ حجة المنطق  ،ودعامة اللسان  ، ووفرة الوقت   ، وحضور الشخصية   ، جعلته يمارس هذا الدور   ، وسكوت أبو المنقذ عنه   ، تعني إشارة الموافقة والرضا   ، بما يمثله أبو المنقذ في ذاكرتهم   ،
في كهف القطا اجتمع ثلاثتهم الواصف وسلوم والمكوجي   ، وبدأ كلُّ واحدِ منهم يشرح الطريقة التي تعامل فيها مع المفردات الطارئة التي دخلت على لغة القصيدة أثناء قيامهم برسم ملامح الطريق وكيف أثّرتْ هذه المفردات على تحريك المتخيّل الشعري   ، وكيف تعاملوا مع هذا المتخيّل الطارئ
_ بالطريقة التي تعامل فيها معي المعلم رجب   ، عندما نصّبني عريفاً للصف   ، وكنتُ ما كنتُ عليه من شيطنة وجهل في الواجبات  ، _ وكان بهذا يقودني دون وعي مني باتجاه القصيدة ومفرداتها_ تعاملتُ مع الشباب   ، وعيّنت خالداً أخ أرجوانه رئيساً للجنة التبرعات  
  نظر الواصفُ إلى سلوم وهو أصغرهم سنّاً مندهشاً ومعجباً  ثم نظر إلى المكوجي وقال :
_ وأنت كيف تعاملت مع المفردات الطارئة
ابتسم المكوجي   ، وأخذ خشبة كانت على يمين الكهف وبدأ يحركها على التراب   ، وكأنّ الكلام الذي سيقوله يحتاج توضيحاً بيانياً   ، أو رسومات معزّزة 
_ الممر الغربي رئة أرجوانه وملاذها الآمن و ..
    قطع الواصف كلام المكوجي
_ يا أخي القصيدة مع المفردات الطارئة بحاجة إلى كلام نثري
   تابع المكوجي كلامه بعد أن أومأ برأسه للواصف بالموافقة
_ تحدثت مع أبي عن أهمية فتح سياج الحديقة أمام أهل أرجوانه لاختصار الطريق وعدم الالتفاف إلى خلف المنزل للدخول   ، لكنه رفض خوفاً من أن يكون مفتوحاً لكل من هبّ ودبّ على رأي أبي
   قال سلوم بعد أن سكت المكوجي عن الكلام
_ وماذا بعد ؟
_ طرأت مفردة الممر الغربي على رأسي   ، وأقنعته بفتح الجانب الغربي من السياج
_ أمّا أنا الواصف  ، العارف في البنية العقلية للكاشف  ، استطعتُ أن أغيّب الكتلة اللحمية عن شهوته  ، ولو لبعض الوقت  ، ركضاً وراء تأويل الحاضر والماضي.
   وقبل ارتداد الفجر من عباءة الضحى   ، خرج ثلاثتهم من الكهف   ، عائدين إلى بيوتهم   ، وعلى نول خطاهم بدأ الحراك الرجبي  يأخذ فعاليته من ن إلى ص   ، وبدأ يستقي من قوة النّسر حليب العلو   ، وبدت مفردات قصيدته الأولى على قدر من الحكمة في تعاملها مع المفردات الطارئة  

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x