لغة القصيدة

 


  لم يكن العالم الافتراضي يسمح لرجب أن يسير جنباً إلى جنب مع الكاشف  ،لهذا أوكل هذه المهمة للواصف مع التأكيد عليه  ،بأن هذه المهمة لا تعني إعمال المغنطة على الكاشف من أجل المعطيات  ،بل لإخراجه من دائرة الإحاطة بالرمز ومستلزماته

  في المساءات القمرية   ، وكما هي عادة الكاشف   ، أن يذهب إلى بستان الواصف   ، هذا الأنيس الذي يرى فيه الكاشف قدرة على تبنّي المواقف الليلية  

_ أيها الواصف صِفْ لي من الحياة نبيذها  ، وافتح لذاتي بعض ما يجتاحها.  

  إنّ لغة أهل الصفوة هي لغة احترازية   ، تفيد التوقيع على الحال   ، قبل الولوج إلى المقام   ، لهذا رأى الواصف أن يغيّر من سيمياء اللغة

_ وكيف لي أن أصِف دون أن أرى

_ ومتى كنا نرى أيها الواصف  ، ونحن أهل الصفوة وأصحاب المرايا

_ ولكن الطيور ترانا  ، وعلينا أن نُداري خطانا

  لم تفلح مكابدات الكاشف عن ثني الواصف   ، وأشار إلى شجرة الدراق   ، واحتفظ بالكلام   ، ولفّ الساق بالساق

_ درّاقة أيها الكاشف   ، ألا ترى بأن رجب منذ أن ماتت زوجته   ، وهو يرقب ذلك اليوم الذي تصبح فيه حليلة له.

_ ولكنها في هبوبها نحوي تعيد شبابي  ، وتفرغ ذاكرتي من ذلك الفزع الماضي

_ ولكنها …

_ دعنا من هذا   ، ألا تريد أن تفتح لي نافذة للقيا   ، لأشرب من نبيذ الحياة

   هيَ مسألة صعبة أيها الواصف   ، وهو الذي يعرف عنك مكابدات الليل مع أرجوانه   ، نعم   ، وتخشى أن يفشي بهذا السر الذي خبأته يداك في أعماق الجبّ   ،

عليك إذن برجب  ، صاحبُ القصيدة والحواس  ، عليك به قبل أن يستفحل شريان الماضي  ، عليك بهِ من أجل هندسة الرصيف الذي سوف تسير عليهِ  ، لاسترجاع حواشي القصيدة  ، من متن الماضي.

_ الماضي يا رجب شلالٌ من السُكْر المعتّق   ، وهو قيد الإمكان   ، واستنساخ الهِمم   ، وناثر الحصى في مجرى الكلام

_ الماضي أيها الواصف رئةُ الإجمال البيني بين الذات والذات   ، وهو مقام الاحتشاد الذهني لفكرة المنطق   ، وهو الكينونة المتبقية من شعاب الطرق   ، وهو الحِمى المعزّزة لفكرة الخلاص

_ هذا في أبجدية القصيدة  ، وملاذها اللغوي  ، وانتشارها على مرآة النتائج  ، ولكن في معطيات الدائرة  ، دائرة الرقم  ، حجابٌ حاجز.

_ إذن عليك بمراوغة الفراغ  ، ولتكن الدائرة فراغية الفضاء  ، ولكن لا تنسى دفق الوريد في حِمى الرمز

تتسلّلُ البنية الإيقاعية في جسد القصيدة من فضاءات المتخيّل  يرتبك الممكن في مطلع الفكرة  ثمّ يتخذ شكلاً من التجريب   ، تبدأ المجسّات عملها من الحواس تتعمّق   ، وتتعمّق   ، تفضي إلى بنيةٍ أخرى من بُنى السّرد الوظيفي   ، يلمس الواصفُ شكلها المعنوي   ، يقيم لهُ جداراً مقلوباً على مرآةٍ محدّبة

_  إذا كنتَ تسعى إلى فضاء محدّد مع دُرّاقة أيها الكاشفُ لا بأس   ، ولكن عليك بمساعدتي لاختزال الحصى   ، ثمّ محاورتي في النرد  

   مساء الرمادي في كلام الواصف لا نجوم لهُ  ، سوى أن يضع الكرة في ملعب الكاشف.

_ أتريدني أيها الواصفُ أن أعيد شهوة الجبال والكهوف   ، وأن أقنن ذاكرة ترابية   ، محيطها الزمن المسكوت عنه   ، أو تريدني أن أتحايل على النار   ، بالمزيد من الحطب

_ كلاهما أيها الكاشف  ، تبدأ من شهوة الجبال والكهوف  ، وتنتهي بالحطب

_ لنعكس المعادلة   ، أبدأ من الحطب وأنتهي في شهوة الجبال والكهوف

_ إذن لنعكس المعادلة الأولى   ، تبدأ بمحاورتي بالنرد  وتنتهي باختزال الحصى

   وما بين قَلْبِ المعادلات  ،وإفراغ المسكوت عنه  ،في نبر القصيدة  ،تتجسّد دُرّاقة على هيئة أطياف  ،أمام الكاشف  ،يَدْرُجُ في مخيّلتهِ نحو ذراعين منشرحين على جسدٍ حريريّ الشهوة  ،يحتارُ في مقام اللون   ، يعرج في الداخل من قوة ذات الذات  ،ينكمشُ على ورقٍ برتقاليٍّ يسدل على حبر الممكن  ،يتقاطع مع صوتٍ أخرق   ، يركضُ في الطرقات الملتوية  ،تتقافز أمامه قبرات الأرض  ،ترقرقُ أحلامه رصاصةٌ تكاد تخترق رأسهُ  ،ينحدرُ إلى أسفل الوادي  ،ثمة عائلات من القطا تسكن المكان   ، يخشى عليها من القلق الناري  يميل قليلاً إلى صحن الوادي  ،تكشفه إنارة الموت ومشتقاتها

يراوغ في حدودٍ ضيقة  ،تغزوه أسئلة الطفولة  ،وهوية المكان  

_ قف

  تصطحبه قطاةٌ إلى حواري الوجود   ، يتنفس الصعداء  ويرى سراب الخطى في صحراء الخوف   ، يتماسك  ينفض عن كاهلهِ جمرة الأسى   ، ويغفو   ، بينما مقام القطا يرقرق أجفانهُ بعد كلّ مواجهة.

 


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x