شقوق التراب / الذات المراقبة والوعي بالمسببات



   تتبع شعرية المراقبة " الذات في انفتاحها على الآخر"، إيقاع الممكن في التصور الذي ينتج عن تناسخ الأرواح مع قرائنها، وهذا التتبع يمضي في كثير من مسلاته المتخيّلة إلى الإيقاع بالجمل السردية، من هنا يلجأ الشاعر عادةً إلى تمحيص الحال، واختباره بجملة من الانفعالات، حتى يركن إليه قبل الانزياح المفاجئ إلى مقام الذات الأخير.
   ومع هذا لا تنفي الذات مسببات وقوعها في آليات المراقبة التي تبدأ من نقطة التحوّل الإنساني باتجاه التأثر والتأثير بالمحيط، لهذا يكشف في كثير من مفاصل النصّ الشعري عن استقطابه للغة القريبة التي تصوّر وجهها السردي المُقتنص للحظة الشعرية الانفعالية.
    تبدأ المراقبة في ديوان " شقوق التراب " للشاعر د. ناصر شبانة من وحدة المزاوجة بين اللغة القريبة من التصور، واللغة التي تنفعل في لحظات القنص، لتحييد ما هو برّاني في التوثّب الشعري، فهو في مسيرته لقنص اللحظة الشعورية الشاحنة للقول الشعري، يحمل قوانين الصياغة قبل كلّ شيء، ليدخل في المساحة اللغوية المرهونة للانفعال الشعري مسلّحاً بالمعرفة، أساس العملية الشعرية الخاصة.
واثق من نداماي:
ديوان شعر قديمٍ
وتعويذة قد تزوّجني من أساي
أنادي على ظلّي الكهل
يا ظلّ !
يفتتح القبر أبوابه
كي ينادي عليّ
يا ظلّ ظلي الشقيّ
ويا واحداً من ضحاياي.
   إذن هو يعي تماماً بأن الدخول في الحالة الشعرية المقتنصة من هذا الخضم الشعري، تبدأ من لحظة المعرفة بحدود الدائرة التي تحيط به، فهي دائرة ممغنطة لا يمكن التقاطع مع محورها الصّوري إلا من خلال التمركز في بؤرتها  الشاحنة لهذا الفعل والمراقبة، فعل التمرّس اللغوي، ومراقبة الانزياح الذي يحدثه الشعور الخاص، والشاعر بدءاً من هذا التصور يعيش حالة الكهولة " المعرفة المحيطة بالزمن والمكان".
أعود إلى أول الحبّ
أرسم صفصافة فوق خدّ الحبيبةِ
أنثرها في ينابيع روحي
أخبّىء ما قد تبقّى من الجمر في كفّها
يا لهذي الصحارى
إذا ما انثنتْ كي تغازلني
أو تعلّق على عتبة من رماد الغياب.
   إن هذا الفعل التجسيدي للمراقبة " الزمن والمكان " هو ما يقود الذات إلى الانتباه إلى الساحة الشعرية المرهونة بالمتغيرات، ولكن مع أنها تدرك الازدحام على أبواب هذه المساحات المرهونة، إلا أنها تشدُّ رحالها إلى الإيقاع باللغة المتفردة التي تنصهر مع الآخرين، ولكن بحدود ما يسمح لها بالمراقبة.
لم يكن وحده
حين وقّع آخر أوراقه
ومضى هارباً من زقاق الكآبة
كانت الأرض تبكي على حاله كسحابة
فقد أيقنت أنها باتت الآن ثكلى
وكان الوحيد الذي لم ترقه منافي الكتابة
  وثمة انقلاب معنوي يساعد الذات المراقبة على التوغل بتقديم المسميات لكل أفعالها، وينجلي هذا الانقلاب باستنهاض حالة من التناص الذي يقلب الزمن إلى الانفعال الأول، ولكنه مع هذا يترك مجالاً لقراءة المشهد السردي دون تفاصيل لهذه الذات التي تقع ضحية للمتغيرات وهي تراقب الحراك الظاهري للمحيط.
هابيل قدّم قربانه للإله
وودّع تربته المشتهاة
وقابيل أنجب مليون وجهٍ قلق
وظلت قرابينه تحترق.
   وفيما الذات تقدّم مشروعها في دائرة المراقبة المعرفية لخطورة النهوض بأعباء المحيط، تبقّى مولعة بهذه المراقبة التي تستدعي وعي المسميات، ومع أن هذه المراقبة هي باطنية التوجّه، إلا أنها بين الفينة والأخرى تقدم شواهد ظاهرية لهذا الحراك الذي ينمو شيئاً فشيئاً وهو في طريق تأسيس كيان خاص " لغة ورؤيا".
وحدي أظل أراقب الميناء
قد يأتي الشراع محملاً بالياسمين
وباحتمالات السفينة
وحدي أشارك مهرجان الغيم حصته
وأذرف حنطتي وسط المدينة
وحدي ووحدي
والمدائن أغلقت أبوابها
والقلب منزرع برمل الآه
ينتظر القصيدة أن تجيء
  وبعد أن تسلك الذات المراقبة طريقها باتجاه تأثيث المساحة الراهنة القابلة للانفعال والتوحد في الدائرة المُمغنِطة لكل فعل إيقاعي قادم من التوتر الإنساني، تتجه إلى تأثيث الحيّز الواسع للمعرفة المنصهرة على شاشة الذاكرة، من خلال بثّ ما هو كامن في المسميات التي تطلقها عند كل منحدر شعري ولغوي ومعرفي.
تعودت أن أحتفي بالقطا والشغب
تعودت أن أندف القحط
من كلّ منفى
أنا الكهل
لا كهف لي
أحتمي بحجارته وأفاعيه
من كيمياء المدن
  ثمّ بعد ذلك وبعد أن تدفع الذات باطنها باتجاه الانزياح إلى واقعها المرئي، تطلق صرختها الأولى في فضاء المعرفة، صرخة التملّك، تملّك الرؤى التي من خلالها ستقيم كيانها المتفرّد، أو الكيان المغاير لكل ما حولها من كيانات جزئية.
أخيراً
أخيراً
أخيراً
شقوق التراب تعلّمني
أن أؤثث قلبي لمن يحملون الهوى
لؤلؤاً أو حريرا
وأترك خلف عصافير عينيك
إذ تستحم على ضفة النهر
قلباً كبيرا
  إلى ذلك تتقدم الذات المراقبة بكلّ قوة إلى خاصرة التفاصيل، بعد أن امتزج باطنها بظاهرها امتزاجاً معرفياً، ولكلّ فاصلة من الجوارح ما يقابلها باطنياً، والشاعر بذلك يستوي لديه الحال والمقام، ويتقدم أيضاً من دائرة المسميات ليعلن عن حضورها القوي الذي يغطي المساحة الراهنة لشعرية المراقبة.
عيون تحدق في واجهات الزجاج
ملامح تشبه ضوء المرايا
وكفّان مشقوقتان كوجه الخريف
ودم يسيل على حائط الروح
صدر يكسره نبضه
ويظل يسافر في فلوات النهار الكثيف.
   إن مثل هذا الحضور القوي والمندفع باتجاه تأثيث دائرة المغنطة الشعرية، يشير إلى أن الذات المراقبة ليس من مهماتها أن تصوّر اللحظة فقط، إنما أن توترها وتقلقها وتمضي معها باتجاه الخروج من دائرة الاعتياد، إلى فضاء المواجهة والصبر على تحمّل أثر هذه التفاصيل المتواجدة بين الذات ومحيطها.
أصلي لقبلة وجهك
يا آخر المدن الغجرية
لست أعود سوى لأغني لسيزيف
يحمل وزر المدائن
ويدفن قبل المغيب الضحايا.
  المقطع السابق يشكّل القيمة المعنوية والمادية للذات المراقبة التي تمحّص التفاصيل، وتأخذ منها ما هو صافٍ لإنشاء جملاً شعرية تحتكم في طبيعتها لقدرة حضور الباطن، وتترك الراهن المتحفّز الذي يشكل عبئاً في نصّه الأول، دون المساس بقدسيته، لأنه ربما يكون دافعاً مربوطا وقويّاً في نصّ آخر، نصٍّ مستلب في النصّ الأول، ونصٌّ جاذب في حراك النص الثاني، وهو ما يؤشر بوضوح على أن الذات المراقبة تقنص اللحظة لتعبر من محيطها إلى فضاء الشعر، وتخبئ فيما بعد الهوامش التي تظهر في سياق الراهن الشعري، وتختفي في سياق المراقبة.



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x