كلّ هذا البهاء وكل شفيف / محمد القيسي


الذات والهامش المتحرّك

  إنّ المعطى الشعري الذي توفره الذات في سباقها مع المعطى الحركي للأشياء، يكاد يتصل بكلّ جزء كياني متواجد أو موجود على شاشة العرض اليومي، ويشتدُّ هذا السباق كلما أوغلت الذات في التقاط ما هو هامشي، الهامشي المربوط ضمنيّاً بالسياق الحركي، مع أنه في لحمتهِ مع النفخ اللغوي، يرقى إلى مستويات ذات رؤى جوهرية، فالمنديلُ مثلاً في سياق الواقع، هو جزئي وجامد لا حياة فيه، بينما في السياق الحركي للذات المنفعلة هو طائرٌ أو حمامة أو طائرة أو لحظة وداع أو عين باكية، إلى غير ذلك من متخيّل يقتنص ما وراء المنديل من كائنات خفيّة.
  تجربة الشاعر محمد القيسي عامة، وفي ديوانه " كلّ هذا البهاء وكلّ شفيف" خاصة، تستثمر هذا السياق بوجهين يتصلان لغةً، وينفصلان انفعالاً، وهو يَقْدمُ إلى تحريك الجامد، ويؤنسنهُ، ويبثّ فيه روح الانفعال الإنساني من جهة، ويشكله نحتاً يصل إلى درجة التماهي مع الحقيقة، حقيقة رؤية المتخيّل من جهة أخرى.
صباحاً قبل أن تصحو هنا الأشياء
تصحو الشمس
يصحو منزل الجوريّ أو
يصحو من الجيران مذياع
وقبل يديك عاريتين مني
إذ هما تتململان على رموشك
قبل أن يستيقظ الجسد النؤوم إلى لآلئه
وأن تنفّس الطرقات.
  ثمة نزع كبير في الديوان ينحت من شجرة الإيقاع، الإيقاع الذي يفرض وجوده على مجريات الحركة الشعرية في النصّ، فالشاعر لا يترك مجالاً للغة أن تقول ما لديها بدون الاستئناس بالجِرسِ الموسيقى الذي يحتل مكانة عالية في تنظيم بؤر الانفعال النفسي، وهذا بالتالي يؤدي إلى خلق جوٍّ مشحون بالرغبة ينشد الإمساك بما هو متخيّل، كوْنُهُ يعالج المنطقة الشعرية الوسطى التي تقع بين الشاعر والمتلقي، فالنصّ بكامل دورته " المعنى والتركيب والتخيّل والانسجام اللفظي" مبنيٌّ على ملء الفراغ الذي تنتجه لحظة التكثيف العائدة في تجلياتها إلى أن الفكرة هي مستودع الموسيقى الغامضة.
ها وجه امرأتي
ها لغة مديحي
يحتلان بقاعي ويحلان معاً في كرمي
ملكين جميلين بلا حاشية ومراسيم يضيئان القلب
وأمّا نهر كلامي فعميق
يتجلى موتي فيه كإيقاع تهدلها المدروس.
  التتبع الإيقاعي للفراغ الذي ينتجه النصّ، هو نفْسُ التتبع اللغوي للمتن الذي يفرضه الهامش، هامش الفكرة التي تستصلح ما يمكن أن يكون ذا وفرة إيقاعية مرتبطة مع المخفي من العلاقات التي تستند في ترابطها على قيمة تحريك الانفعال، فالشاعر يربط اللحظة الفراغية مع وفرتها الإيقاعية، مع الزمن الذي يحدده المتلقي لتلقي النصّ، لأنه يعي تماماً أن إيقاعات مختلفة في الذاكرة تنشأ لحظة التلقي، لهذا يسحب المفصل الهامشي للنصّ، ويقدمه كإطار إيقاعي يفرض حضوره الصاخب والمتأمل بين هذه الإيقاعات.
على أنني لا أقيم هنا لا أبوح
أرى ما تتيح الطبيعة لي أن أرى من هياج عناصرها
واحتفاء حجارتها بالخطى
لست أروي ولكن صفصافها صافنٌ
وثلاثين أغنية لعلاج الخريف يضمّ صحيحي
وآية مائيَ ريحي.
 ومع هذا التردّد الذي ينتاب الشاعر لحظة ملء الفراغ بكياناته المطلقة، يستدعي ما يشبه النمذجة الاختيارية، نمذجة الفكرة، نمذجة التركيب، نمذجة النصّ كاملاً، ولكنه أيضاً يقيم حدوداً ذات وفرة إيقاعية لهذه النمذجة، فهو لا يسقط ورقة التوت عن الجسد النصي، إنما يحرّكها باتجاه أن يتلمس مكانة المتلقي الحسيّة، فالمكانة هذه فيما يكتبه الشاعر هي ملك النصّ، وملك المتلقي، وهو بينهما عازف تسترعي أصابعه الهامش الذي سيكتب عليه إيقاعه المعرفي والنفسي معاً.
حرير اليدين
سلاسة عائلة اللون
زرقة الصوت في جدول الساق
إيقاع هذا الإجاص
ورنة فضتك الملكية
ماء الطفولة وهو يسيل على شفتيك
ارتعاشة روحك في شفق ناعس
الثمار المدلاة في الصمت
إذ توقفين هديل النهار لصالح أن.
 إن تحريك الهامش هو من الأسس التي تقوم عليها قصيدة القيسي، ليس في ديوانه هذا فحسب، إنما في معظم ما أبدع من نصوص شعرية، فالهامش لديه يعني إيقاد شعلة التلقي في كلّ لحظات التجلي، التجلي المعرفي، النفسي، السياسي، وأيضاً لحظات التجلي البصري الذي يرفد المتلقي بقوة الانفعال الذي تحسمه رؤية الأشياء والمسميات على طبيعتها، فالهامش بإيقاع أكثر وضوحاً، هو الإمساك باللحظة التي تتوتّر عندها الرؤية البصرية مقابل النصّ المعرفي الممسوك بالإيقاع الحركي للكلام.
خمسة أفراس ترعى قرب النهر
خمسة أفراس وغيوم في الأفق
خمسة أفراس
وحشائش تتمايل في رفق
وندى نعسان
خمسة أفراس ترعى
نفرت فزعى
ودنت من طرف الغابة
بزغ الغجري من الغيب وقال:
هي ذي فرسي.
 إن مثل هذا التوتر المعرفي ناقص، إذا لم تسعفه وفرة الإيقاع التي تهيئ له التربة الصالحة للمشي في فضاء التكامل النصي، لهذا ركن الشاعر في تحريك الهامش إلى تكرار الصيغة البنائية من أجل الوصول إلى توتر انفعالي، يخدم في جهته المعرفية المتلقي الذي يحبس أنفاسه منذ السياق الأول للكلام، حتى يبزغ الوجه الآخر للهامش، وهو جذر انسلالي من الصيغة البنائية التي توفر طاقة للشاعر لنحت جملة القول: الهامش، هي ذي فرسي، لينتهي الإيقاع مع إفراد الحالة الشعورية الناتجة عن صيغة التكرار.
ولكنه بيت حمدة
قرميده من ندى وتواشيح ليل طويل
توزعني في الغصون حفيفاً
توزعني كاملاً في المرايا
توزعني فيه
سهماً إلى جهة الماء
سهماً إلى درجات السماء.
   ثمة إيقاع آخر ينتجه الهامش، وهو وفرة السّرد النفسي الذي تهيئه التفاصيل قبل الولوج في البناء الشعري، فالنصّ بهذه الزاوية يتقدم إلى الأمام في إنشاء محطة تروية شعرية منبعها التوافق الضمني الذي تنتجه الرؤيا بين اللغة ومنجزها البياني، وتعتبر هذه المحطة من ميزات تجربة القيسي الشعرية، إذ أنه لا يترك مجالاً للمفردة أن تحيى بعيداً عن سياقها الشعري، فاللغة هي ميزان القول الشعري لديه، والمفردة هي انقطاع الهامش عن محيطه، لتأنس فيما بعد بالحلول في الجسد الواحد الذي يهيئه الانفعال لتقبّل الفكرة غير الاعتيادية التي تنشأ من ملامسة الأشياء والمسميات المطروحة في كل مكان.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x