لسان النار / أحمد الشهاوي


الذوات الإشارية

   في مقام اللغة المرن تبرز قيمة الفعل الإشاري للكلام، وفيه أيضاً تتصاعد جذوة اقتران الفاعل (الدلالي) بالمفعول (الإشاري)، والمضاف ( التبادلي) بالمضاف إليه ( التجاوري)، وهذا المقام مقام مشبعٌ بالغيْريّة، غيْريّة البنية والتصوّر، يشي في كثير من محاوره بالدلالة المحاريّة إذا جاز التعبير، وهو أيضاً مقام لا ينفتح على حال الذات الواحدة بقدر انفتاحه على أحوال الذوات، الذوات النصيّة المقترنة في خصائصها المائية بما وراء اللغة، وكأنّ اللغة هي التي تنفتح على رؤية الشاعر، تتلمّس مسبباتِ هذا الانفتاح، بدءًا من " أنا " الشاعرة، وانتهاءً بمحمول ما يقدّمهُ النصُّ الوراثي التركيبي من حياةٍ ظاهرةٍ في الدلالات الممنوحة للذات.
   إنّ مثل هذا التصوّر البنائي لحركة الداخل المناط بهِ تحويل المادة من رقاع لغويّة تستند في هيئتها الأولى على المنجز الذهني للفاعل، الفاعل الدلالي، إلى حراك شعري يمارس فعالية هذا المنجز عبر استسلام المفعول بهِ لقدريّة الفعل الخارجي، يقود النصّ الشعري إلى الانفتاح على صيغة مفخّمة زئبقيّة الشكل، ومرقّقة تنهض بالذات المطمئنّة.
   هذا التصوّر يقودنا إلى ممارسة الانفتاح على تحوّلات الذوات لنرقب مُدَّخراتها السّببيّة، فكلُّ فعل بنائي للكلام لهُ ما يوازيهِ من مسببات الإضافة، إضافة الذات الفاعلة إلى جاراتها المنفعلة، فنحن إذ نلمس مثلاً حضور النار في ذاكرة الانكماش، إنما نقيم حالة من التوازن بين ظهيرين للذات، ظهير منفتح انفتاحاً بصريّاً على المادة، وظهير منغلق على حواس هذا التصوّر البصري، لذلك نؤطّر سببيّة الانفتاح والانغلاق بظهير ثالث هو إضافة المتخيّل على الظهيرين، لتبدأ قراءة الحضور من مقام " وفتِّحتْ أبوابهُ " وهو مقام مُدّخر افتراضي قادر على ضبط الفرائض الشعرية التي يسعى الشاعر إلى إقامتها لغايات الوصول إلى الذات الشعرية المطمئنّة.
    تنفتح قصائد الشاعر أحمد الشهاوي في ديوانه " لسان النار " على جملة من الأخيلة السّببية التي تقود النصّ الكلامي إلى تربتهِ القَدَريّة، احتفاءً بالمقام الإنساني الذي ينشغل بمرايا الواقعة الشعرية، وهي بذلك ترتّب سُلَّمَها التصاعدي عبر الترقيم الحسّي للمفردة " اللبنة " الأولى، لتجمّل إيقاعات البناء الشكلي عبر وسائط الهالات الافتراضية للمادة، بحدود ما تسمح بهِ الفرائض الشعرية.
لستُ المتهشّم في إبريق من كلمات
لستُ أنافسُ
من وضع النقطة فوق النونِ
لستُ المأخوذ بقاموس الرملِ
لستُ الذائب تحت لساني
لست أنام على شاطئ دائرةٍ
تاه المركز فيها" 
   إن تفريغ الذات من حمولتها الوقفيّة، هي النبتةُ الصالحة بالنسبة للشاعر، غايتهُ في ذلك تحميل الجملة إيقاعاً سببيّاً يدخل من خلاله إلى مركز الرؤيا، كما أنهُ بهذا التفريغ يحدِّد منشأ الكلام، درءً من الوقوع بمطب السببيّة اللغوية التي تؤخّر وتحجز الذات عن متابعة الصعود إلى ما يمكن أن نسميهِ، " سلّة  المُتخيّل " المشحونة بطاقة قَدَريّة من الانفعال الوقفي، وكأن كلّ ما يلي الذات من جمهرات بصرية محتبسة داخل الكلام هو وقفاً على ما تظللهُ الفرائض الشعرية.
لستُ المذبوح كتينة شوقٍ
تفرك عينيها في موسيقى الفجر
وتنعى طينتها
لستُ أواجه قمراً من صخرٍ
ضيّعني
وأضاع تواريخي
لستُ النائم في مطرٍ لا يأتي
لكني أتتبع _ حذراً _ غيمة روحك
فالتقطي قلبي
سأؤجّل قبري بضع سويعات
كي أحيا فيك
  وتحيا الذات قريباً من المحذوفات، لأنها وحدها القادرة على نبش أعماق الدافع الذاتي للنص، إنها تؤجّل بالمحذوفات كلّ ما من شأنهِ أن يستتر أمام سببيّة الوصل، لتصل بهذا الدافع الذاتي إلى صيغة " وفُتِّحتْ أبوابهُ "، لتبدأ عملية اختيار المُدخلات النصّيّة التي تساهم في تحويل المادة من رقاع لغوية، إلى حراك مشهدي. 
المحذوف من الذاكرة
المحذوف من النسيان
المكتوب بشكّ في سيرة مائه
يبحث _ حتى _ عن شاهد قبرٍ
في نهديك
الذابل في مجد الأمكنة الخمسة
لا يرفع كفّا
أو يدفع حتفا
أو يأسر مشهد صورته في فيلمين اثنين
يذوبان بقاع بصائره.
  هذه المشهديّة التي تقودها الفرائض الشعريّة، تتحسّس موجباتها من لدن النّفْس اللوامة، فهي بتصاعدها الأزلي الداخلي الظاهري المحمول على الذات، تبحث وبأشكال مختلفة عن مسبباتها الوجودية، فهي ظاهرة للعيان، ومختفية عن الأعيان، تتقدّم الوجود، كما لو أنها هنا في ظاهر الوضوح غيباً، وفي باطن الغموض شهوداً.
في غرفة مجهولةٍ
من نقطة سوداء في هذا البدد
أنت انتقيت نساءك
دخلت غابة ذكريات
ووضعت إصبع نارهن
في قلق الثقوب
حملت شمساً ماحقة
سوداء لا تمشي
مات عنها العارفون
ركبوا سفائنهم
إلى جهة الندى والصمت
فاركب سفينة ذاتك
لا ترفع شراعا
فالموج موجك
والريح أنفاسك.
    وعندما تصل وقفية الذات إلى مبتغى ما يتأمل الشاعر من مكونات لها ومخرجات تلقي ظلالها على الوجود الشعري، يبدأ بزحزحة فردية اللفظة، معنًى وشكلاً، رغم انحسار الصورة في إطار واحد مكشوف، إلا أنهُ يعي أن الذات ما هي إلا ذوات منتشرة في أخاديد مرآة الحياة، وهو مقام تصوّري غير مسبوق لا بالفعالية ولا بالإضافة.
أنا رافع صورتي في العراء
غير أنّ وجوهي عديدة
لا وقت لي في الزمان
فاقرئيني
أنا الحرف
الذي لم تلده اللغات
لم تكتشفه يدُ
    إنهُ مقام وقفي للذات، مختزل في حرف، ومتعدِّد في الوجوه، قائم بظاهرية الكلام، وباطن في المشهد المعرفي، لا تسحبه الأمواج رغم صبوة رمل الشاطئ البصري، إنه مقام العودة، عودة الفرع إلى الأصل.
أعود إلى النصّ
كلّما خذلتني يداي
أعود إلى التيه
كلما ضاق بيتي عليّ
  وكما تعود الذات إلى الحرف، يعود الشاعر إلى المعنى، يبسط مقتنياتهِ على بساط التأمّل، قريباً من ظاهرة الانفتاح، بعيداً عن ظاهرة الانغلاق، انفتاح الكلام على المبنى، وانغلاق المعنى على أسماءٍ يحرّرها داخلياً، ويقدّمها قرباناً للخارج المتحرك في دائرة المُسمّى، لتؤسس الذات وجودها الأثيري المُحتفى بهِ في مقام الصعود.
إلى أين سيأخذني الباب المغلق
أبهزة كتفٍ تتحرّر أسماءٌ
هل تهرب فاصلة من نقطتها
أوتنهدّ سماءٌ فوق دماغي
سأعود إلى الإيقاع
وإلى صمت موروث من أمي
سأحرّرني من شوفانك
من أن تتكلم روحي
إلى حرفٍ
من إسمك.
    وإذا كانت الذات في طريقها الوعر تخاطب طوقها المرهون بالعزلة، فإنها تكشف بلا وعيّ عن مدّخراتها الوقفية، ومع هذا تبقى منشغلة إلى أبعد حدّ بتسليم الراية إلى مثيلاتها من الذوات، أليست هي مفصلاً من هذه المفاصل، ولكن أين موقع " الأنا " في الذات، أليس في البينيّة القائمة بين مجموع الذوات المتخلِّقة في النصّ، أو في الخواص العائدة إلى النصّ.
ماذا تدّخرين سوى حرف زاد على لغة الأسلاف
فمات وحيداً في عزلتهِ
لم يسعفه الثأر
ما من أحد يعرف أيناك
وأين الإسم الأعظم؟
أين شجيرة عطرك في الأرض
أين أنا منك؟
  وفي التبادل الشعري المنسوب إلى هيئة المتكلم، ترقم الذات الأسئلة وترقبها، لتستدّل على ذاتها أولاً، ثمّ على مثيلاتها، ثمّ على " الأنا " الشعرية، وفق ما تشترطهُ الفرائض، لأنّ في ذلك خلاصها من المعطى الذهني، وانتقالها إلى عالم الخواص، أو خاصة الخاصة حسب التعبير الصوفي.
قالت:
كلّ محبّ مشتاق
وأنا اشتقتُ لأن أعرف
أين أنا مني
قالت:
أخبر ذاتك
أن اسمي يطلبك
تحيّر فيك
صلّى في الحاء طويلاً
ذاق المحو
وراح.
   وهنا تتدخل " الأنا " الشعرية لتفصح عن أخبارها، ليس خوفاً على الذات من التلاشي، ففي الوقف الشعري ليس للذات مكاناً ولا جغرافيا، ولكن لتنمو الذوات من نطفة واحدة، باتجاه المتغيّر الذي يقدّمه النصّ في مسالكه وممالكهِ، وهو مقام حيادي غير مرهون بالانسجام والانفصام الذي يحدثه عادة المتغيّر اللغوي في بنية المُتخيّل.
باسمي
سأضحي
كي أنقذ صوتك من سكين الذبح
سأسرق من قبر الشعر قبوراً
كي أحيا في الحرف
أزوّج سرّ الكيمياء بحرف من إسمك
   في هذا الاتجاه تظهر الذات وكأنها مسلك تنويري للأنا الشعرية، فهي وإن اتخذت مسلكاً مغايراً لما يريده المقام، فإنها تبقى على تماس مع النصّ الكياني المُتخيّل، لهذا ما عليها إلا أن تستسلم للأنا القادمة من أعماق اللغة.
صدّقي لغتي
فإن حروفها خُلقتْ
لما فتحتُ بادية الحدائق.
   وهكذا تتلاشى الأنا، ويتوزّع ضمير المقام في قدسية التحوّلات التي تطرأ على النصّ الشعري الموقوف ضمنيّاً على الحرف، هذا الحرف الذي بهِ يقام الوجود النصّي.
صرتُ لا شيء
ربما خيط ضوء يفكّ طلاسم عرشك
أو نقطة من مياه يقاس الوجود بأسرارها
توزّعتُ فيك
تناثر جسمي
لمّا تنزّل حبّ عليّ
   وفي مقام الذوات تظهر الذات بأسمائها العشر، الباحثة، اللاقطة، المستوعبة، المختزلة، المنتجة، الدافعة، المتصلة، المراقبة، المشاركة، والمطمئنّة، وهي منتديات النصّ الشعري " الملكوت "، لتقف في معراجها التخييلي على حدّ الحرف ومؤنساتهِ.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x