رمح غرناطة / خالد أبو خالد

الشاعر خالد أبو خالد

الذات وسياقها الإنساني

   في الانزياح الذي تحدثه شعرية الوجود في مقام الذات الأول، تبدو الذاكرة محتشدة بعناصر ذات بعد تحريضي، قياساً بالذات الحالمة، أو المتأمّلة، فالشعرية التي تصدر عن الذات وانتفاضتها، هي شعرية التحلل من المستحيل، والوثوب إلى دوائر الممكن، أو المجابهة، في سياق خطابها الإنساني.
    ويشكل هذا الانزياح وفرة إيقاعية للذات لتنجو من الهامش الذي يضغط على مفردات الواقع الذي تسطو عليه لغة البناء التجاوري، فالذات هنا ليست أسيرة الخطاب، وليست أسيرة التراكيب، أو أسيرة قنص الصور الشعرية، بقدر ما هي أسيرة الداخل المتحد مع الخارج، أسيرة المقاومة والانتفاضة.
   ويتمثل هذا الانزياح باتجاه الخطاب المقاوم في قدرته على استرجاع حراك الأمكنة وتفاصيلها، والخطى والأثر، خطى الإنسان المقاوم، وأثر العلاقة بينهما، ويظهر هذا بشكل لافت في ديوان " رمح غرناطة " للشاعر خالد أبو خالد، فالشعرية فيه تكمن في تظهير سطح العلاقة القائمة بين الإنسان ومكانه، ونبش ما يعتمل في حراكها، والتقدم بهِ إلى دائرة الوعي بالحرية والحياة.
سوى ما سيكتب في قصص العشق شمس
مطاردة،
وجبال على سفر،
وعقيق
مفارق مدريد كحلية
عابر يستريح على مقعد،
وجريدة
مساء يهجر عصفورة الياسمين
نساء يغيرن أسماءهن،
يرتبن أشياءهن على عجل
وحده يتأمل
غرناطة المرمرية تخلع عن كتفيها رخام النسور
وأبهى بساتينها
وتبدله برخام القبور.
     وتسعى شعرية التجاور إلى ربط الأشياء بالمسميات، لإظهار قدرة الذات على استيعاب المتن النفسي، فالأشياء هي منبع هذا التجاور، والمسميات هي أنساقه المتجددة، فالشاعر في طريقه لكسب هذه الأنساق، إنما يحاول أن يعيد الوجه المشرق للذات، الوجه الذي لا تبصره معطيات الواقع.
أرى الآن برهتنا أن نكون..
ونأخذ شكل السكوت
نخبىء قلبين في الحبّ
كي لا نشاهد في السوق
أو في المقاهي
كي لا يصادرنا الخوف
هاتي يديك
لندخل في الحلم
صاحت به
ما وصلنا
فصاح بها
سنصل.
    ومع هذا تبقى الذات معلّقة بالمكان في سياقها الشعري، منفتحة عليه كأثر باقٍ في المخيلة، وفي هذا تحييد كلّي للذوات المُتحلِّلة من أثر المستحيل الذي تصطدم به الذات المندفعة، فهي بذلك تتبع الأثر النفسي للمكان، عبر جملة من التوصيفات التي تقرّها حركة الانفعال والمشاهدة، لهذا يأتي السياق الشعري منفتحاً على السّرد التشخيصي.
هموم..
وكون من الحزن ينعقد الآن في القلب
ألف سؤال..
 وجوهرة..
يكتبان لها_ خلف
مرآتها_ سيرة في الرماد..
على نجمة من سديم
سوى ما يبوح به أثر دارس_
وردة في كتاب
وكأس..
فتى وحبيبة..
وسماء مباركة
     إنّ مثل هذا الحشد التشخيصي للأثر إنما هو كامن في الانقلاب الذي يحدثه المُعطى الشعري، وهو لا يستمر إلا بحدود ما تسمح بهِ مخيلة الكلام، أو انعتاق الكلام من نثريته، وسرعان ما يتحول الأثر إلى فاعل مشارك بالحضور والتشخيص، كون الشاعر على بعد فاصلة من التذكر المكاني، فهو بهذا المناخ، إنما يتيح للأثر الانتقال من طلل الحكاية إلى باحة الاستقراء والتلاحم مع مفاصل الكينونة التي يعيشها، كينونة الغربة والنفي.
توقعت هذا الدخول إلى الشعر
هذا الخروج إلى طفلة الوقت
وهج الصعود إلى جسدي من غيابي
_ رسائلنا خيمة
والرياح رياح
وأمي مشردة.. والرمال جراح
تعرفت كيف العلاقة بين النواعير والنهر
بين احتفال المدائن بالضوء والقهر
بين بكاء الصبايا وبين خداع الصباح.
   ويستقر مقام الذات المحرّضة على جملة من المُعطيات التي يتركها الأثر، وأهمها الانتقال بين حاجتين، حاجة القول وردة الفعل، وحاجة الإنصات لمعول البناء والهدم، فيبدأ الشاعر بإقامة توازن بين الذات القارئة والمندفعة لغايات الوصول إلى نصّ شعري يجمع الحاجتين معاً.
تسمينني غيمة..
أو دخاناً
أسميك ضوءاً قصياً
تسمينني مطراً..
أو سراب شتاء
أسميك تقسيمة للوداع..
وصوتاً شجياً
تسمينني حالماً..
أو شقياً
نسمّي اللقاءات ذكرى..وحلماً
ونحزم أفراحنا في الحقائب
نشبك أحزاننا بالظلال.
    وعندما يصل الشاعر إلى مراده في تحميل النصّ الشعري طاقة قول غير قابلة للتصدّع، يبدأ في تكوين الإشارات التي تحمل المعنى، بدءاً من المقاربات التي يقيمها من خلالها علاقة القول بالنصّ، وهذا ما نلمحه في عنوان الديوان " رمح لغرناطة"، وعلاقة النصّ بالمعطيات التي ترفد الذات بقوة الانتفاضة وتحمّلها لتبعية هذا القول.
سأسرج حطين 
درس الرماد..
كدرس القراءة
ليس العدو صديقاً..
أو الملح ماساً
ولا الموت بيتاً جميلاً
فلا تتركيني وحيداً
ولا تتركيني
أشيّع كراسة الرسم..
شيّعني الماء
أسلمني لدمي
كربلاءاتنا.. ورثت كربلاء.. فأورثتها ندمي
    هكذا تستدعي الذات المحرّرة من الداخل والمنتفضة على الخارج حيواتها، عبر إقامة شبكة من العلاقات بين نصّين يقتربان من الذات معنى ويفترقان شكلاً، وقوس هذا الاقتراب والافتراق لغة الشعر المعبأة بالتفاصيل التي تزدحم على أبواب الفكرة الشعرية.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x