القصائد الأولى / محجوب العياري

الشاعر الراحل محجوب العياري

السياق التوفيقي للذات

   في المقام المعرفي للذوات تتهيّأ اللغة لإبرام صفقة توفيقية بينها وبين الخطاب المعرفي، لقربها من العين اللاقطة لأصل المُعطى الذهني الذي تتفرع عنه قيمة الأشياء، وهي بذلك تحدّد مسبقاً رؤيتها الشعرية، وتجلياتها الخاصة للعصب الفكري، المنهل الطبيعي للحراك الشعوري تجاه كافة مدخلات المحيط الإنساني ومخرجاته.
   وفي مجموعة " القصائد الأولى " للشاعر محجوب العياري، وهي مجموعة تضم الدواوين الثلاثة الأولى للشاعر، وهي " تداعيات في الليلة الأخيرة قبل الرحيل، حالات شتى لمدينة واحدة، وحرائق المساء.. حرائق الصباح "، تتضح معالم المقام المعرفي للذوات من خلال الإفصاح عن منبت كلّ ذات على حدة، في جملةٍ تعترض السياق الذهني للخطاب، جملةٍ تتحرك وفق ما تؤسس له الذات المستوعبة.
    وفي هذا السياق المعرفي لدوران الذوات في الذات المستوعبة، تنحرف اللغة عن بؤرة التمايز، تمايز الوعاء الحاضن لها،" السّرد الشعري "، والذي يتعدّى كونه خطاباً معرفياً دالاً على حركة تنويرية، إلى خطابٍ تنبّؤي قادم من أعماق الوعي بأهمية سرد الحركة الشعرية كما تلتقطها الذات المستوعبة.
الغامض الأزرق
الأزرق الأزرق
والمرأة \ الموّال
جاءت على مهلٍ
في ثوبها الأبيض
الأبيض الأبيض
حلّت ضفائرها
واستسلمتْ وردة.
  إنّ السرد المعرفي في المقطع السابق يؤكد في البنية الأسلوبية للتكرار الذي يسعى من خلاله الشاعر لجسّ نبض الخطاب المعرفي للذوات، ذات الشاعر، ذات النصّ، وذات المتلقي، يؤكد على استحضار الحركة الشعرية التي تعمم تجلياتها البصرية على أقل عدد من المفردات التي يظفر النصّ من لدنها بمساره التنبّؤي، فحركة اللون ما هي إلا إشارة دافعة للانتقال بين وجهين للمعرفة، وجه ماضوي يتمثل بالخطاب، ووجه استشرافي يتمثل بقدرته على استيعاب اللحظة وتمريرها عبر أشكال شعرية مختلفة.
نضب السراج
ولا قبس
لكنما لا تبتئس
فدماؤنا تكفي
لينهمر النهار إلى الأبد.
  المعرفة بأهمية الحركة الداخلية للذات المستوعبة، تقود بالتالي إلى تدوين معطيات ما ينجم عن شعرية النصّ من فضاءات معرفية، فضاء كياني ضابط لكلّ توترات النفْس، وفضاء تنويري قادر على حمل شعلة الانقياد لهذه النفس، وفضاء تنبّؤي يجسّر الهوّة بين الخطابين، الشعري والمعرفي، لإمداد النفْس بما يجعلها قادرة على إيقاد شعلة الذات كلما خبتْ.
يمرّ على بائع للجرائد
يفتّش في صفحة الميتين
ينقّب بين الأسامي
وبين الصّور
ويغرق في صفحة الميتين
ولكنه منذ عشر خلتْ
لم تصادفه صورته
أو رأى اسمه بين كلّ الأسامي
لذلك يبدو حزيناً
حزيناً
حزيناً
  إنها صورة الخطاب المعرفي التي تتحرك في سياق الرؤيا الخاصة بالذات، رؤية واقع النصّ المشدود إلى وجهه التنبّؤي، إذ نلحظ أن السّرد الشعري يخبئ خلف مقامه المعرفي، مقام شعرية الإلتفات إلى الذات، " الناس نيام حتى إذا ماتوا انتبهوا " في محاولة لتمرين الذات على القفز فوق المُعطى الكلامي، لتحقيق حالة بصرية للمتلقي يقف إزاءها مشدوداً إلى عنصر المفارقة الذي ينتجه تراخي الخطاب المعرفي.
خطأ مقامك، فارتحل
غيّر مكانك، وارتحل
أشرع لموج البحر صدرك، واغتسل
مما تعتق فوق روحك من غبار
فالمدائن غيّروها
كم غيّروك وغيّروها
فابتعد
خطأ مقامك فانتجع لغة الرحيل
ولا تعد             
   وفي التصاق مرحلتي الخطاب، التنويري، والتنبّؤي، تشتدُّ وتيرة انبعاث اللغة من محفظة " الأنا "، ليهدأ السّرد في محاولة ليتبوّأ مكانة أخرى، غير لمّ شتات التفاصيل وكتابتها، مكانة الإصغاء، لهذا يبدأ في التقاط ما هو خفي عن العين المشاهِدة، مستنداً على أذن واعية لكلّ ما يدور داخل الذات المستوعبة.
تباركتُ، أسبغتُ من نعمتي
من جميلي عليكم
وأطعمتكم بعد مسغبةٍ
فاشكرون
وإذ كنتم البائسين الأذلة
يغشاكم الرّوع في كلّ آن.. فآمنتكم
ثم ناديتُ أن مشرعٌ بابها جنتي
فادخلوها
   إنّ مثل هذا الانبعاث التجاوري لقراءة الخطاب، يحمل في طيّاته مآل الذات وقدرتها على تخطّي أرخبيل الكلام، فهو في أتون محرقة الجمل إذا جاز التعبير، يحثّ المُخيّلة على الاصطدام مع واقعها الشكلي الرقمي الذي ينسلُّ بطيئاً من الإيقاع المفتوح على اللغة إلى الإيقاع المرتبط عضويّاً مع المُتخيّل.
باقة من غبار
بيدر من ذبول
والضفاف العتيقة
يا طفلة غيّبتها الليالي شتاء
_ خرافية عينها _
يا التي لا تُسمّى، الضفاف العتيقة
ما أنصفتني
ولا النورس المستهام اهتدى
أو هدتني الفجاج التي تنزلين الرياح
    في صورة القصيدة وتعاضدها مع تشكّلات الذات، يسعى العياري إلى نقل الثقل الكلامي من حالة الثبات إلى حالة خلخلة السياق الخطابي، لتركن الذات في جملة الخفاء الشعرية التي تظهر فجأةً، بعيداً عن فضفضة اللغة وانشدادها لمجريات الخطاب.
تكسّرْ حنيناً
تمزّقْ
تهشّمْ كلوح الزجاج.. استقمْ
فوق صحرائنا برعماً
تعمّد بنار القصيدة حدّ التجلّي
كن العاشق المدمن الفوضوي الذي لا يتوب
انبجس نبع ماءٍ
أو فكن مثلما تشتهي
إنما، إنما، لا تكن مثلهم
   إنّ معرفة الذات بمجريات الخطاب في سياق السرد الشعري الذي تفرضه هيئة المتكلّم، " الأنا "، أو " الراوي "، أو " الصورة المشخّصة " من فعل القول وسياقه اللغوي، هي أهم ملحقات الذات في بحثها عن المعنى المكشوف، المكشوف حدّ التمازج الواضح تحت ظلال شمس المعرفة، بما تريده هذه الهيئة من السياق.
هي المرة الألف
تفجأني هذه الفاتنة
هي المرة الألف
أسحبني من فراشي
وأسرقني من يديْ زوجتي النائمة
وللمرة الألف
أنلّ في هيأة اللصّ مستتراً بالتخفّي
إلى حيث مخدعها
هذه القاتلة.
   يبدو أن احتفال الذات في سياقها الخطابي، نتيجة حتميّة لمعرفة حركة الذوات، فالذوات هي تابعة على المستوى البنائي، وفاعلة على المستوى القرائي، ولكنّ الشاعر في سياق التحفيز البصري، والعصف الذهني، الذي يمارسه في حدود النصّ وخارجه، يؤكد حقيقة واحدة، هي أن البنية الواحدة للذات متّصلة رغم تعددها، ورغم انبعاثها في ذوات متعددة.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x