كسوف أبيض / السرد وميكانيكية الذات



    السرد قامة من قامات الوثوب اللغوي، وهو إنشاء صيغ قابلة للتمدد، وفق ما يكتنف اللغة من مرايا عاكسة لهذا التمدد، وهو بذلك يفسح المجال أمام الراوي للظفر بممتلكات الدلالة، وما ترتبهُ هذه الدلالة من نصب فخاخ نفسية للمكان والزمان معاً، وبهذا السرد يستطيع الراوي الإفلات من عنق الزجاجة، زجاجة الفكرة ذات الاتجاه الواحد الذي يقود إلى إلغاء الحدود بين الجملة وجارتها، أو بين المفردة ومقابلها النفسي.
    نحن أمام الصيغ السردية التي تنتج عن وفرة في التعامل مع اللغة وما تحتويه من قنوات معرفية، ندرك أهمية الحرية التي يتطلع إليها منشئ النصّ الإبداعي في تقديم مجمل اللوحات التي يمكن فصلها، فهو لا يستكين لإطار تركيبي واحد، أو إطار إيقاعي مناط به تقديم التقاطعات التي تنتج عن تسلل الخيال إلى الواقع.
   تتجه القنوات المعرفية في ديوان " كسوف أبيض" للشاعر علي العامري، إلى الأخذ بفكرة التوازن بين اللغة في سياقها الشعري، واللغة في سياقها التركيبي، مما يحتّم على الشاعر أن يفرد بيضاء الصفحة كاملاً أمام تدفق الأطياف اللغوية، من حلولها المعجمي، مروراً بحلولها الدلالي، وانتهاء بالتقاء الإيقاعين الداخلي والخارجي للمفردة والتركيب معاً، وهذا من شأنه أن يجعل الشاعر يمعن في التقاط الحواس أو تفعيلها، باتجاه القبض على أسرار الذات وهي في طريقها للانفعال.
الغراب يجيء من المستحيل إلى شجر واقف في التلال،
يظل هنالك مستبسلاً قرب عزلته الحجرية،
ينقش فوق الطبيعة سيرة أسلافه الميتين،
هنا أو هناك ينام الغراب الغريب وحيداً،
وقد غادرته الطيور إلى إثمها
ووحيداً يرفرف بين الأعالي
بمنقاره يحمل الريح والأرخبيل.
   تبدأ اللغة في مقامها السردي من كلمة واحدة تشدّ الشاعر إلى الانتباه إلى فضائلها، وممتلكاتها، ثم تتدرج اللغة شيئاً فشيئاً في النهوض بأعباء الوعي المسحوب من بؤر التوتر الكلامي، لتقدمه كمعادل نفسي للمتخيل الشعري الذي يسعى السرد من أجل الإفصاح عنه في حميّة الدوران الإيقاعي وتوازنه.
بيديها نصبت فخّاً في سقف تتداخل فيه الأشكال
وكانت تمسك خيطاً معقوداً كنواح حول مآتم في البرية
تلثغ بالوسواس
وتغرف من طاس الرّيب هلالاً يتثاءب.
     ويشكل هذا الدوران الإيقاعي لعبة إسنا دية لجمهرة الكلام، وأقصد بالكلام، الإنشاء المعرفي الذي يتخلل السطور المدوّرة، وهي لعبة تحتاج إلى وقت إنشائي ربما يمتدّ إلى ما لا نهاية، لهذا يبدو النصّ الشعري مفتاحاً لكل النصوص المتأخرة التي تأتي في لحظة من لحظات التوازن المعرفي، كما ويبدو مجموع النصوص موقوفاً على لعبة السرد في سياقها الكلامي.
وأرجع نحو البيت
أرى الأطفال بأجنحة النوم
أرى الأرملة بأجنحة النسيان
أرى طاولة تعرج من كسرٍ في الساق
أرى الجدران تميل إلى الحناء
أرى قمراً مكسوراً فوق القشّ
أرى قطناً يتطاير من إبريق الماء
وأرى صيفاً يتناثر في الممشى
وأرى في أرض الغرفة نرداً مخموراً من غير نقط.
   وتحتاج لعبة السرد الشعري بناء مختلفاً عن البناء الدرامي، فهي تقدم الأشياء وفق ما يميله النصّ من كيانات لغوية، عكس ما يطلبه السرد الروائي من انشغال الراوي بالكيانات قبل النصّ، فالبناء هنا هو بناء إيقاعي قبل كلّ شيء يتقدم ترجمة الإحساس والشعور، بينما في الفعل الروائي هو بناء وصفي قائم على حركة الدراما، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه لعبة التوازن.
الغرفة لا تنسى
الغرفة تبكي حين أغادرها
وتلملم ما يتطاير من ريش ممسوس
تجلس قرب الأوراق
تحكّ الوحدة والصلبان
وتفتح أنهاراً تائهة في الصيف الشاسع
تحلج أقماراً
وتثير جناح الذكرى
الغرفة لا تنسى.
      المبدأ الذي تقوم عليه لعبة التوازن السردي والإيقاعي، هو الانفتاح على أسلوبيات متعددة، وأهمها تكرار الكلمة الواحدة " المركز " لأنها تشكل فيما أحسب عصب النصّ الجمالي، ومفتاح الرقي باللغة من جمودها إلى حيويتها، فالكلمة في عزلتها المعجمية هي دلالة ناقصة لا تجيّر إلا إلى منشئها، فيما تغدو في لعبة التوازنات ملكاً لأمور عدّة، أهمها الوعي بالتناسل اللفظي الذي ينتج عن قراءة واعية للمنتج اللغوي المشحون بالتفاعل والقياس، قياس المرتبة والحال.
من هنا؟
من ينام على حافة الغيب بعد عبور السديم؟
وهل في التميمة باب؟
إلى أي وجه أوجّه مرثية الماء؟
هل يتدلى الهباء وأنسى؟
وهل في الرصيف مواويل شاغرة؟
حفرة في ممر الحنين
غبار على غرة الأربعاء.   
   ومن اللافت في لعبة التوازنات السردية والإيقاعية التي يعالجها الشاعر هو إبقاء مساحة من المرونة للنصّ الشعري، ليتمّ مملكته الدلالية في نصّ آخر، إذا لم تستنفذ اللعبة ميكانيكية الحركة الشعرية، بالإضافة إلى إعمال الحركة البصرية في جزئيات أخرى تتوافد من نصّ لآخر، كما هو الحال في قصيدة " الغرفة " التي سبق الإشارة إليها التي لم تتوفر لها الحركة البصرية إلا في المقطع التالي من قصيدة " يد موشومة بالأجراس" والتي نقلت لعبة التوازن السردي من حيز ضيق " الغرفة " إلى حيز أوسع " القرية".
لا يعرف أحد في القرية ماذا يبكيه
ولكن امرأة واحدة كانت ترفع يدها الموشومة بالعزلة والأجراس
تتمتم بين اللحظة والأخرى
وتحرّك عود الرمان أمام النار
وترسم فوق تراب الساحة خطين ودائرة.
  هذا التوازن الذي يقدمه النصّ السردي، من الانتقال من الحيز الضيق إلى الحيز الواسع، يقابله الانتقال من اللغة " التقاطعات " التي اللغة " المرسلة " والتي بدورها تستثمر كلّ مفاصل الرؤية الحركية الناتجة عن جريان المعنى بلا قيود، ولفهم هذا التصور الدلالي للعبة السرد والتوازن الإيقاعي الذي تنتج عنه وعن حراكه القصيدة، يضعنا الشاعر أمام جملة من التقاطعات " الخطوط" كإشارة إلى أن النص الشعري منطلقه الكلمة، وفي أحيان أخرى جملة معناها في بنائها، " الشتات نديمي الوحيد"، " يدي تتهجى البعيد"، "من ترك الصورة في الممحاة"، وغيرها من الإشارات الفاعلة في حقل الكتابة المعتمدة على اللقطة السريعة المستوجبة لفعل السرد في بنائه الشعري.




إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x