حبر أبيض / الذات وإحالاتها


              

   تتجه محاور البحث في العملية الشعرية لجهة اتصالها بالذات  وما يترتّب عليها من جهد ينضاف إلى المؤثرات، إلى تفويض الحواس مجتمعة بالكشف عن مدلولات اللغة، وما ينتج عنها من تقنيات خاضعة لقوة الإشارة، تلك الإشارة التي تؤسس للفعل الشعري المباغت.

   إن البعد الإضافي الذي تنحاز إليه الحواس، هو البعد الواقع بين المرئي وغير المرئي، وهو بعدٌ قابلٌ في مقتضى ما تتوصّل إليه التجربة الشعرية، للتحيّز لأكثر من صفة، قادرة على التشكّل وفق ما تتوصّل إليه الذات في مجرى تقلّباتها وانعكاسها على المحمول البدئي والمتغيّر في اللفظية التي تسعى الفعالية الشعرية لإظهارها أو الاقتران بها، من خلال إحداثها جملة من الانزياحات التي تظهر في محور الاشتغال على الذات كونها المحرّض الرئيس على حضور الحاضر، محور الاشتغال على الموروث بصفته المتطوّرة والقابلة للحياة، الدّال على قوة الماضي.

 ومحور التبادلية القائم على الانعكاسات من الذات إلى الجمعي ومن الجمعي إلى الذات .
   وفي ضوء هذه المحاور سنلقي الضوء على جملة من المؤثرات التي ساهمت في إبراز البعد الحركي اللوني في ديوان " حبر أبيض " للشاعر مروان حمدان، وما ينتج عنه من انفصال عن الماضي، وهو ما يترتب على الذات أن تعمل عليه في سياق التجربة الأولى، عبر فردية الدلالة وتشيّؤاتها
   إن هذه القراءة للغة اللون في قصيدة حمدان توفّر لنا آليات عمل يمكن من خلالها أن نتواصل مع الفعالية الشعرية التي تتكوّن من ( المفردات وألوانها ) و ( الذات وإحالاتها ) عبر وسيلة الاتصال بالذوات المتعددة التي تتشيّع لتعدد الألوان  في محاولة لحصرها في الظلّ وانبثاقه من الأشعة فوق الشعرية .
" ماذا على الشاعر
لو رآها
تجرُّ خلفها ارتباكه
وتنحر المدى
على راحتها
كأجمل الطيور
ماذا عليه
لو رأى في ظلها
نرجسهُ
واشتعلت كشمعة الرؤى
دماه
ماذا عليه
غير أن يقول : آه "
   إن حصر الدلالة اللونية في الظل، هو قوام هذا التشيّع الذي يسعى الشاعر لتحفيزه والاقتراب من مجاله، حيث يضعه مثل إشارة تستطرد في تحركاتها إلى القبض على جوهر المعنى، فهو منذ الإطلالة الأولى يرسم معالمه وفق شروط الحراك البصري، ويتنقّل معه إلى حيث تدور العملية الشعرية في أجلى صورها، فاسحاً المجال لتعدد الإشارات أن تأخذ موقعها في دائرته التي تقترب كثيراً من دائرة قوس قزح
" امرأة
كاللون الرائع
يتماهى في اللوحة
يفضح ما يخفيه البرق
كأنّ اللون أبد "
   لا تتعدى فكرة تحيّز اللون في العملية الشعرية التي يقودها الشاعر صور الواقع ومقوّماته، ولكنه في كلّ حركة دورانيّة، يبحث له عن مسوّغ للولوج في حضرة الواقع، لا من كونه واقعاً معاشاً، ولكن من كونه واقعاً محمولاً على أثر المدلولات الماضي، الحاضر، المستقبل، في إطار الرؤية المحايدة التي تفرض على الحواس أن تقرأ عمق المدلولات
"صباحاً
المرآة توشوش أذن الحائط
ما بال الشاعر
يعتنق الدندنة المذبوحة
كلّ صباح
ظهراً
في  المرآة كلام مبحوح
هل يرتاح الشاعر
حين يكّنس في الدرب ملامحه
هل يرتاح
عصراً ومساء
تتثاءب في المرآة شفاه الضوء
الشاعر يعتنق الرعشة
يتورط في العتمة والبرد
يراود أنثى المصباح
ليلاً
لا شيء سوى مرآة ناعسة
تبكي "
   ويشكّل هذا الاتجاه المحايد الذي يلجأ إليه الشاعر لاستقراء جملة التحوّلات التي يمر بها اللون بنية فضائية تستمد توافقاتها من إعادة القراءة اللونية في كلّ الأزمنة" صبحاً، ظهراً، عصراً  ومساء"  التي يحتاجها النصّ الشعري، للظهور على شاشة اللغة حيناً، وحيناً على شاشة الشكل المتوفر في الإحالات التركيبية ,
   وبعد أن يحيط الشاعر بهذه الإحالات الواقعية، وتستقيم له جملة المتغيّرات التي يقرأها تحت تأثير تحوّلات الظلّ، ينطلق إلى تعميق وتأصيل الذات في مقابل قراءتها للبنية الورائية للغة الألوان . 
   وينسحب على مجموعة الرؤى المتصلة بالتجربة كونها الفاعل الرئيس للتجديد والمحرّك له في فضاء الذات المحمولة على المتغيّر، من هنا يستطرد الشاعر في تعميق البنية اللونية بتغليفها بالمعنى الجواني الذي ينعكس عن المرايا، وهو في حدود المدلول الطارد للخطاب الذهني، ليوفّر له أكثر من زاوية ظلّية إذا جاز التعبير، فتأتي الإشارة محمّلة بما وراء الواقع
" القديم
إشارات بلا لون
ازدحام نسيانات
تنوس برمادها
القديم
سلالة هواء
شارع لا يمتدّ إلى يدها"
  البحث عن التجربة إذن يأتي من مشهدية المتخيّل، هذا المتخيّل الرمادي الذي لا يتّسع لفضاء اللون إلا إذا عبر أوردة الشاعر وتقمّصها  فالشاعر في أوعية النصّ الشعري هو المحرّك والقابض على جمر التحوّلات، والشاعر في مقاومته لخضوع النصّ تحت تأثير مؤثر الواقع  يلجأ إلى رفض الألوان  ليس لأنها لا مدلول لها في الواقع، بل لأنها مفرغة من الدلالات في المتخيل، لذلك يعمل على إلغاء الصفة اللونية القديمة ومؤشراتها، ويخضعها لقانون التجربة، وهذا ما حمله عنوان الديوان " حبر أبيض " فالحبر في كلّ مفرداته لا يتعدى اللون الأبيض في معطى الواقع .
" رايتي
في احتفائي بيومي
يداها
كلما لوّحت
رنّ في معدني ورق
وانهمرت كثيفا
إلى آخري
آخر الاشتهاء
كأني أؤرّخ يومي
بفتنتها في البعيد "
   ويضمّ في سياقه، الواقع والمتخيّل، وهي حالة متقدمة في التجربة في المعطى الدلالي للغة اللون، والذي لا يرى إلا بظله  في محاولة لإجراء صيغة توافقية بين المفردات وألوانها، والجملة وإحالاتها، بحيث تتقارب الهيئة، هيئة المفردة من الذات الفردية، مع الجملة واتصالها بالتعدد الجمعي
" الشرق يميلُ إلى العتمة
فيما يده
تغسل آثار الضوء المتبقي
في لغة الشاعر "
   إنها لغة قادرة على اكتشاف وعي التمازج بين المضاف والمضاف إليه، المضاف، المرئي والقابل للولوج في حضرة المرآة والتي تشكّل في بعدها التخييلي " دواة الحبر " بما تبطنه من ألوان، والمضاف إليه، غير المرئي والقابل للانعكاس عن طاقة المرآة والتي تشكّل في بعدها التخييلي " الورق الأبيض " وما يحمل من مساحات قابلة للكتابة
" في القصيدة ما يثقل القلب
بعض التفاصيل عني
أنا الورقي بحجم الكتابة
جرّبت عمراً من الارتباك
ويممت صوب الحديقة
لكنني لم أجد وردة واحدة
فتيممت بالريح حتى انطفأت
وما زال في جسدي ورق جاهز للكتابة " 
  ديوان " حبر أبيض " قراءة شعرية ناضجة ومتميّزة لحركة المرئي، تتكىء على تحويل بصرية الصورية الشعرية من طاقة مشهدية جاهزة في المعطى اللغوي، إلى طاقة لونية حركية تماسيّة تثير المتلقي، وتذرع مساحة الاتصال بين النص والمتلقي عبر وسيلة تمازج الحواس، والتي يفرضها تعدد الألوان، حيث تتسع المساحة وتضيق حسب المؤثرات " الواقع، المتخيل، التخييل " المصاحبة للمعطي الشعري 
 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x