العصا العرجاء / الأنساق البنائية المتخيّلة للذات



     تتكىء الرؤيا في الشعر العربي على الأنساق البنائية المُتخيَّلة، بناءً وقفياً على ملمح الذات، باتساع اللغة التي تنحدر من عوالم المعنى، معنى المعنى في أدقّ تجلياته الصّوريّة، فيما تذهب البنية الكلامية في هذا السياق إلى تثبيت طاقة الذات أمام واقعها المشحون بالدلالة النفسية، فالإيقاع النفسي للجمل هو المؤثِّر الأول للبناء الذي يسعى الشاعر إلى إقامته ضمن علاقات الذات بالذات، والذات بالآخر، والذات بالجزء المتروك من واقعها، والرؤيا في هذا السياق هي انكشاف الذات على نفسها، واحتفالها بالمتغيّرات الذهنية التي تطرأ على هذا الواقع، في لحظات الانكشاف المسبوق بذاكرة فسيولوجية تتحرك المسميات من خلال إيقاعاتها المختلفة.  
    بناء على هذا التصوّر تتحقق للذات جملة من المعطيات الكلامية، فهي حركة لا ترتبط ارتباطاً عضوياً بالنصّ، بل تشكل واجهة لتحرير النصّ من واقعه الكلامي الذي يستثمر المسميات لغايات الوصول إلى المُعطى الشعري، وهي إيقاع احترازي للغة تحقنها بكلّ ما يمكّنها من قراءة الحركة الفسيولوجية للمفردات، كما هو الحال بالشحنات الموقوفة على تناسخ الغيم، لينتج بالتالي مُعطى جديد يثير الرغبة لدى اللغة للكشف عن رؤى متعددة في حركة واحدة، فالرؤى هنا هي علامة وقف على الذات، وعلى اللغة، وعلى المجال المفتوح أمامها لتغير نمط الذات الواحدة المتعددة في ذوات النصّ الشعري.
    وفي أكثر المواقع انفعالاً لهذه الرؤى، تتجسّد بنية النصّ اللغوي الذي يستمد حيويته من التوغّل في عمق الكلام، فالكلام هو بطبيعة الحال إنشاء سماعي للمعنى، ولكنه مع الحركة التي تحدث فسيولوجياً للنصّ اللغوي يصبح الكلام موقوفاً على رؤى ذات مناخ متخيّل.
    ديوان " العصا العرجاء " للشاعر طاهر رياض ظاهرة لغوية كلامية متحركة، تبدأ من الذات الموقوفة على الفكرة، وتنتهي بجملة الإشارات التلميحية لمعنى المعنى، فالبنية النصّية هي بنية إشارة وليست بنية تركيب، فالمفردات جميعها موقوفة على لغة الإشارة، لهذا تأتي الصور الشعرية محمّلة بالكلام المنحوت من دوائر التأويل، وهي صور جمعية تجمع في عصارتها ما يرشح عن تمازج العناصر الموقوفة أيضاً على اللغة، ليكون الناتج الشعري مربوطاً بالإشارة الملمِّحة، الخاطفة، والدافعة لفعل الكلام، وليس لإنشائه.
غريب هو العمر بعد الثلاثين
ينقصف الشجر الفوضوي
وتختبل الغائبات القريبات
والفستق المتورم يشرق بالعض
يصعد آنية لاختناق الكؤوس
وينزل في الصدر آنية للأنين.
   ويحتاج بناء الرؤيا إلى مقومات ذات أثر فاعل في الحراك الفسيولوجي، لإشباع النصّ بواقع غير مألوف، فالنصّ يبدو في هذا المقام نصّاً غير قابل للتداول الشفوي، أو الالتقاط السريع للكلام، ومن تلك المقومات ما هو ظاهر في اختيار مفردات بعينها قابلة للحراك، ومنها ما هو منطوي في المشهد البلاغي للتراكيب التي تحدث صدمة جمالية، وأقول صدمة، لأنها ذات جمال متخيّل يستعير من الجمال البصري فقد مشهد الحركة.
وأكون وحدي في الجدار
ويكون أن أرتد عن شكلي
وأرشح من مسامات الجدار
صمغاً يدبّق جبة الليل الطويلة
قبل يلعقه غبار الراحلين
الراحلين إلى الغبار
ويكون أن الارض دائرة
وأني قطرها المشدود
بين مقام موتاها
وأحوال النهار.
     ويبقى واقع الذات مشدوداً إلى حراك الرؤيا، لما تمثله من شحن عاطفي ونفسي، تتداخل فيه لعبة اللغة، اللغة المحميّة بالإطار العام للذات العارفة، السابحة في ملكوت المتخيّل الذي يمنح الواقع رئة للتنفّس الحقيقي الذي يحقّق صورة الكلّ في الجزء، أو الجزء في الكلّ، فالمناخ الإبداعي الذي تلج اللغة محاوره، هو مناخ توصيفي تأملي عرفاني.
مرة يشتهي
فيوصي مراياه أن يصرن عيونا
ويبدّلن أرض ناسٍ بأرضٍ
ويبدّلن ناس أرضٍ ب
ناسٍ هو قمحاً
يشدّه لرحاه
باسمه يطحن السنين
ويبرأ.
    وتتعلّق الذات في نصوص رياض بالتوصيف التأملي العرفاني، لقدرة هذا التوصيف على شحن المفردات بكلّ معطياتها الفسيولوجية، فالحركة الشعرية في أيّ نصٍّ لا تأخذ مداها الأوسع إلا عبر هذا التوصيف، لأنه القادر على جلب المفارقة التي تحدثها الرؤيا في الحرف والمفردة معاً
أنت مما ينقش الصخر على الماء
ومما يكتم الشاعر عن أشعاره
خوف ارتباك
أنت.. لما حزّك التوق هنا
غبتَ
ولما غبتني نحوك
ما كنت هناك
لابساً خرقت لحم
كنته يوماً
ومشلوحاً على أرصفة الركض
خطاياك خطاك
كلما أيقظك الخوف
تلفّت
وما ثمّ سواك.
  وينتج عن هذا التعلّق التوصيفي ما يمكن أن نسميه شحن المسمّى بأنماطه الغيبية، فالغيب الكوني هو النطاق الواسع الذي تدور فيه رحى المفردات، وهي في طريقها لسوك المعرفة، أو إنجاز الرؤيا الشمولية للذات والمحيط والواقع، إذا اعتبرنا المحيط هو مادة التأمل الذي تجري فيه المفردات كينونتها الإنسانية.
لوجه الغبار فقط
أعلق ثوب النهار المدمى
على الجدر العاريات تماما
سوى من خطوطي
وبعض النقط
لوجه الغبار فقط
كلما ثبّتته يدي بأظافرها
وانسحبت....سقط. 
   وتشكل البنية ذات الإيقاع الوصفي ممراً شعرياً لبناء الرؤيا، حيث يستقيم معنى المعنى، دلالياً عبر هذا الانزياح التأملي، وفقاً للحركة الفسيولوجية التي تطرأ على كلّ تركيب يقدمه الشاعر في النصّ، فلكلّ جملة شعرية، أو مقطع حركتها الفسيولوجية الخاصة، كما أن لكل مفردة حركة فسيولوجية وظيفية ينتهي الفعل الشعري بانتهائها، لهذا لا يتوانى الشاعر عن ضخّ الحركات في جسد النصّ.
أعطي لكل هبةٍ هواءها
لكل غيمةٍ سماءها
وأستريح
أنا انتظار ما يكتّم الصفصاف
في اندفاعه الجريح
وما تبيح زهرة الليمون
قبل نومها
للريح ما تبيح.
    ومع هذا، ورغم اصطياد اللغة البكر في كلّ ما يلفت من مقامات شعرية، تتأسس للذات أمكنة غير واقعية بمعنى المعنى، ولكنها بنائية وفق ما يجعل من الشعر وظيفة جمالية تثويرية ذات رؤيا لا تخضع للتفسير.





إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x