طقس النزيف الأخير / وعي الذات وطقوسها



  ثمّة محمولات كبرى يشتغل عليها الشاعر موسى الكسواني في ديوانه الجديد " طقس النزيف الأخير "، وهي تشكل فضاءات التجربة، وتحقق لها مستوى قرائي دلالي جديد للمفردات، التي تتشكل منها النصوص، في صور شعرية ذات مناخ خاص ومغاير للحقائق التي يعمل على تشميعها لغايات الاتصال بما هو أعلى من مرتبة الرؤية، أقصد مرتبة الاندغام بالإنشاء الكلامي، والمشاركة في صياغة الحدث، باعتباره الملاذ الجديد والوحيد الذي يحضن الطاقات الانفعالية للمعنى
" مسربلاً أجيء يا صديقتي
بالعشق والجنون
ومثقلاً أمرّ عبر آخر الجسور
مطوقاً بشعري الحزين تارة
وتارة أموء
مثلما قط هزيل
 تلعثمت قصيدتي الخجلى
حروف الكبرياء في عينيّ
بعدما اكتظ الحنين
 في عينيك والشغب"
  وفي استعراضه للموقف الإنشائي ينأى بعيداً عن الذات، ليترك فعالية السرد للكيفية التي تنفذ من خلالها الجمل، وهي تستخرج ثمارها من شجر التراكيب، ينأى بعيداً برؤى انفتاحية ذات إشكالية لغوية متصلة بالماضي لجهة الصيرورة، حيث تبدو اللغة وكأنها خارج الإطار السردي رغم تدافع مستويات البناء منذ التقاطه للمفردة الأولى " الشرارة الشعرية " حتى بلوغ المستوى الاشاري المفتوح على صورة الانقلاب، انقلاب الإشارة ومستوياتها
" كأن هذا الكون لي وحدي
وليس من شيء سوى
صوت الهتاف
جوف حبات المطر
 الجوع ذئبة، تلوك رأسي القتيل والأحشاء
الريح تجلد النحول
 في عظامي العوجاء
والرّهاب سيد المكان
 ماذا تريد، بعد أن أفنيت
 إلا روحي الخضراء "
  واللافت للنظر في هذا الاستعراض أنه يقوم على ازدواجية المقطع، تركيب دلالي ينتمي لنفسه لغوياً، وينتمي لغيره دلالياً، من واقع أنه متصل بما وراء الصورة، المتخيّل مثلاً،
" الليل قبر
والصباح لا يجيء
والأرض في مخاضها الأخير
 تعلن اصفرارها
 وتعلن الصيام
 فسعلة الرياح في أزقة الزرقاء لاسعة
 من موقد الجنون زفرة
تبعثر الغبار
والصغار
 في مساحة العيون الجائعة"
  لهذا يصدر عن هذا الاستعراض إيقاع متوتر، وقلق، يميل إلى ربط الوعي بأداته البحث عن مستوى دلالي جديد للمفردة  المنضبطة داخل حدود التركيب اللغوي، ومعه يميل إلى نثر الإيقاع، ويخيل للقارئ أنه يقف على أرضية لزجة ذات تعرجات سطحية، ومع هذا يبقى الإيقاع النبري محافظاً على هدوئه، ومستواه الحركي
" همس أغوى شره الشهوة
حتى استيقظ حرّ الشمس
 واستلقى خجلاً
 فوق شفاه الورد
 وظلّ يصلي
 فالقبلة أغنية ساحرة
 يعزفها شغب في نغم
 يفضي للذاذة خمر فوق مياه
والهمس خفيض
توقد فيه الأنثى عبث اللمس "
  ومن الجزئيات الكبرى " انقلاب التناص " وهي مرحلة أحسبها متقدمة في تجربة الكسواني الجديدة، فالتعامل مع المسافة الفاصلة بين فعل شعري، وفعل ماضوي، ليس بالأمر اليسير، فنحن أمام خلخلة منظومة ناجزة، أو إيقاع فكري ثابت في المنظومة القيمية للمسميات، لهذا تنحرف آليات الكتابة والضبط بحيث يمكن لنا أن نشاهد في النصوص تربتين أصيلتين في التعامل مع الأزمنة ومجرياتها، تربة " إرادة الوعي " بما تحمله من لغة في سياقها التصويري، وتربة " وعي الإرادة " بما تقدمه من تبرير لهذا الانقلاب، إذن نحن أمام ثنائية جديدة لنص الكسواني " الوعي، الإرادة " وهي ثنائية راوية بالمقام الكلامي، وفاعلة بالمقام الشعري
" لأني أحبك
أتيت على صهوة الصدح لحناً
أغنيك يا عبق الياسمين
 أهتف حدّ الذي لا يحدّ
أحبك ميديا
 أحبك شمساً رؤوماً تنثّ على نزق الجرح نوراً
 فلا تَقتلينَ
ولا تُقتلين "
  ولكن ثمة جزئيات صغرى مساندة في الديوان تشارك بتتبع الأثر الانقلابي لمفردات النصّ، تشكل بدورها نابضاً فاعلاً وخفيّاً يستند عليه تحوير المسمى، والمعطى الشعري، وهو ما يمكن له أن يقود الصورة باتجاه التحوير المطلوب، تحوير التناص مثلاً كما رأينا في المقطع السابق، فمديا زوجة الأمير جيبسون ابن الملك كريون التي ذبحت طفليها انتقاماً من زوجها الذي تركها وتزوج أخرى، أصبحت مع صورة الانقلاب امرأة معشوقة، بل أثيرة لدى الشاعر.
" أحبك عنقود خمر
 يهامس غصن النعاس
على بيدر فوق صدر الخليل
أحبك يا امرأة من بهار
 تبرج سحراً
وأذهل حتى استدار
على شفة الشعر بوحاً
يهدهد نوح الهديل"
  ومن الجزئيات الصغرى المساندة التي تنظم العلاقة بين وعي الإرادة، وإرادة الوعي، ويزخر بها الديوان، وعلى سبيل المثال لا الحصر، مفردة الليل والتي تتشكل وفق ما ترتبه الجزئيات الكبرى من حالات تخدم ظاهرة الانقلاب النصي، مستوى قرائي جديد للمعنى المناط بمثل هذا الانقلاب، فمفردة الليل تتدرج هكذا في سياق الصور، الليل ذاكرة انفتاحية، سحابة ليلة عيد، ملاذ الشمس وهي تشرب الظلام، إلى غير ذلك من صور الانقلاب الدلالي التي تتمدد بحسب قوة انعكاس الأثر، أثر الجزئيات الكبرى على شمس المعنى.

3 تعليقات

  1. شكرا لقلبك الطيب ولذائقتك الرائعة .........لقلبك الفرح
    1. الشكر لإبداعك العالي صديقي
  2. قراءة واعية
حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x