أنأى كي أراك / انتشاء الذات بالمحسوس


    في الشعرية العربية ثمة أمر غير محسوس، أو لنقل غير مقروء، إذ أننا كثيراً ما نخلط الأوراق في محاولة لمقاربة الصورة الشعرية من الصورة اللغوية، وكلاهما خارج نطاق المحسوس والمقروء، فنحن إذ نتفرّد بالمفردات، ونمزجها مع رغبتنا بخلق هالة فضائية مع ما يليها من رؤى خفيضة تكاد تتلمس أوزارها، فإننا بذلك نستدعي قلقها التركيبي لينهض بما لا تجيزه ربما الذائقة الشعرية، كما وإننا حين نضارع في مسيرتنا المرآة البصرية لهذه الشعرية، فإننا نغمرها دون وعيٍّ منا بما لا يمكن الركون إليه من أحوال وسطيّة تأتي بين الأبيض والأسود، أو في الحقل الرمادي للكلام إذا جاز التعبير، فالصورة الشعرية بأدقّ ممتلكاتها هي الحالة الوسطية بين الإلهام والمتخيّل، بين الفضائي والواقعي، وفي أدقّ تجلياتها بين الوحي الغيبي والرجفة التي تهزّ المتلقي لحظة إمساكه بالكلام وما يتجلى عنه من مقروءات بصرية، فيما تتجلى الصورة اللغوية بالظلّ الكلامي لهذا الإمساك الذي يمارسه المتلقي لحظة التجلّي البنائي، بناء النصّ، أو هيكلة النصّ، من هنا نخلص إلى أن ما يعين المتلقي على التشيّع للحظة التلقي هو ما نسميه ب " الصورة اللغوية "، وما يعينه على التذبذب الداخلي وتراجعه عن الإمساك اللفظي هو ما نطلق عليه ب " الصورة الشعرية"
  عبر هذا التوصيف سنحاول قدر الإمكان رصف علامات الصورة بشقّيها الشعري واللغوي من خلال متابعة الدلالات الخفيّة في العنوان الموسوم به ديوان الشاعر والتشكيلي حسين نشوان  " أنأى كي أراكِ" الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت عام 2005م، والذي استطاع من خلاله فصل أجنة الصورة الشعرية " أنأى " ومحيطها، وما تظفر به من متخيّل قادر على الإمساك بالكلام، عن الصورة اللغوية، " أراكِ " وما تفتحه من سيولة للمفردات، وما تظفر به من حمولات زائدة تتحقق فعاليتها مع " كي "  في عملية تبادلية منسجمة مع الحالة الوسطية التي لا تكون الشعرية بدونها 
  تنطلق الكتابة الشعرية عند الشاعر حسين نشوان من فضاء سياقي تأمّلي للمعنى باتجاه عملية إنزال بصري تأويلي تنطلق منها شرارة التكوين الأول للعملية الشعرية، هذا التكوين الذي يستدعي الشاعر ليطلق كافة مدخلاته وهو يستعد لاحتلال مواقع غير مرئية، وهو بذلك لا ينطلق من فورة الإحلال اللغوي في جسد النصّ فقط، بل من ذلك المناخ الملبّد بالشحنات الكهربائية القادرة على إضاءة المساحة الخفيّة للنصّ المُخصّب، منذ أن تحرّكت في الذاكرة الشعرية رياح الواقع المحمول على قراءة الذات وما تحدده من معالم كانت في الأصل اللغوي مادة لا تثير الانتباه، فاللغة في النصّ الشعري الأول لمساحة المقروءة لا يترتب عليها فتح قنواتٍ تأويلية، بقدر ما تعتبر قوى كامنة ودافعة في المتخيّل الذي يسعى الشاعر لتوريطه للعبور إلى بحر الصور الذي يحفل بمثل هذا الفضاء السياقي التأمّلي للمعنى، كما وتحال اللغة في المستوى التصويري إلى بناء فضاء تأويلي مقابل للسياق التأملي، للكشف عن جوهر التأمّل والتأويل في مقابل الانفكاك من مزلاج  الكلام العادي.
 ولمعاينة هذا الفضاء السياقي يسعى الشاعر نشوان منذ العنوان " أنأى كي أراكِ " إلى تحديد مسار المتخيّل اللغوي، لمواجهة المتغيرات التي ستطرأ على البناء الشكلي للجمل الشعرية التي تتحفّز لالتقاط ما هو كامن في الحالة الوسطيّة، فنحن أمام أول نقطة للمتغيّر عبر تعدد أشكال النأي وحمولاتها اللغوية، فهي من جهة تفترض الابتعاد عن مساحة البصر، وهذا ما يشكّل في بعده الكلامي صعود المراد من هذا الانزياح، ومن جهة أخرى تتبنّى مفردة " أنأى " حمولة المعنى في عنصرها التخييلي، " العودة إلى الداخل " لمواجهة متغيّر الرؤية، وهي بذلك تحدد مسار الفضاء كالتالي: أعود إلى داخلي كي أراكِ، ومع هذا السياق الفضائي " الداخل والخارج " الداخل المربوط بالمتغيرات التي تطرأ على الذات، والخارج الموصول بالأنا المتحفّزة لالتقاط الظواهر المنضبطة في النصّ " الواقعي والمتخيل"، يأتي الشاعر بمفتاح المواجهة اللغوي " كي " ليبسط رؤيته على كافة مسارات الصورة " شعرية كانت أم لغوية " لهذا يلجأ الشاعر إلى مفردات دالة على بنية المواجهة التي يسعى إلى تأصيلها، فمن جهة تأتي مفردة " عينيّ " لتقرّ بالمحمول الدلالي للنأي كونه إشارة إلى قراءة الداخل، دون اللجوء إلى المرئي، فيما تحمل مفردة " يديّ " قوة المواجهة مع الخارج، مع محاولة لتزويد المفردتين بإيقاع كياني دال على الأثر، في رؤية تطابقية قادرة على الإمساك بالمنحى الكلامي في سياقه التصويري " لغز الرمل، وأصابع العشب ":
" أغمض عينيّ
أغمض يديّ
أغمض ستارة النافذة
أغمض لغز الرمل على أصابع العشب
أغمضعلى خطاي
المسافة
كي أراك".
  ومما يشير إلى هذه المواجهة التي يقيمها الشاعر بين عنصري الذات " الداخل والخارج " أن المفردات في تكويناتها تسعى إلى الإخلال بالأمن الوظيفي للجمل إذا جاز التعبير، فهي لا تضبط حدودها الشكلية عبر جملة التحولات التي يقودها المعنى، وإنما تفتح لكلّ النصوص الكلامية مسارات أخرى غير تلك التي تتناولها الوجهة التحذيرية للنصّ، كونه متفرد في القراءتين، قراءة المتغير وقراءة المواجهة، إلا أن هذا الإقصاء المتعمّد للذات بعد أن تفرغ حمولاتها الداخلية، ما هو في الحقيقة إلا إقصاء يسترعي الانتباه، فالذات المستوعبة للتصوّر الدلالي للعنوان، ما هي إلا ذات النصّ، أو ذات الواقع، وما بينهما تغيب الذات الشاعرة في نومها أو صحوها، لأنها في السياق الفضائي هي الممسك الوحيد والمتفرد بكافة المتغيرات، وحدود المواجهة، وهي بما صبغت من أشياء ومسميات بصبغتها تبقى قادرة على قراءة الرؤيا التي تريد رغم تخفّيها في هذه الأشياء والمسميات:
" أصدّقُ روحي
تنام في حقولها الرخوة
غير أن الصباح
يعيد لحاف العتمة إلى شجرة الروح
كي أرى الذين أشعلوا ارتعاشي
بنبيذ الصحو
ومشوا
وكنتُ عبّأت قوارير الضوء
في جيوب الحصى
كي أراك".
  وهكذا تبقى المواجهة في إطارها العريض قادرة على الإمساك باللحظة العصيّة على التدجين، عبر توخيها جملة المتغيرات التي تطرأ على الذات منذ أن تمسك بالسياق الفضائي التأملي حتى عبورها منطقة الانزياح الدلالي، وهي منطقة ذات حرمةٍ مؤقّتة، غير أنها واقعة في مجالٍ حياديٍّ، ولا يجوز " وهذا ما يمكن أن نطلق عليه المسح الدلالي"  أن تبقى مقيّدة، شرط أن تستدلّ على ميكانيكية الخروج، الخروج المؤقّت أيضاً، لتتم عملية بناء الصورة وفق دلالة الأثر، الأثر البصري الموشّح بخطوط ذهنية عريضة.
" تفتح كمّ القميص عن غابةٍ
مخططةٍ بأفعى البحر
فيما العشبُ يتواطأ لإخفائها"
  ومع هذا الانخراط في مزاوجة الرؤى الداخلية للذات مع معمارها الخارجي، تسير العملية الشعرية وفق أربع محطات  ترتكز عليها جملة القول الكلامي المفتوح على السياق الفضائي للنصّ الشعري، منذ أن كان باباً للتأمّل، وليس انتهاء بحصر التأويل في جهة واحدةٍ تقود إلى تفكك البنية الكلامية لأغراض تتوسّم فيها الشعرية، شعرية المفردة أهمية التشكيل، تشكيل السياق الفضائي بناءً على مراتب النصّ الفراغي الذي يسعى الشاعر لحقنه بما هو متخيّل ضمني يقود بالتالي إلى عناصر حياة النصّ، وأوّل هذه المحطات هي تحديد آلية العبور النصي إلى واقع الفكرة، أو فكرة الواقع، وثانيها الفتق ألهدمي الذي يجعل الشاعر فاعلاً كيانياً في النصّ، وليس مجرد ناسخ، وثالثها الانسلاخ عن الذات الخارجة وإعادة ترميمها، وآخرها الانكباب على عملية الرتق الكلامي والدلالي، ليتسنّى للفعالية الشعرية تحديد عناصر التكامل النصّي
" اللغة أنثى
المدينة أنثى
الحية أنثى
الجنة أنثى
ال...
الماء
وحده
بلا لون
أو رائحةْ"
  من المقطع السابق نستطيع تحديد عناصر النصّ التكاملي، فاللغة سياق فضائي داخلي، وهي محمول أول للنصّ، والمدينة سياق فضائي تأملي، وهي فعالية المحمول، والحيّة سياق فضائي تأويلي، وهي منزلة بين الداخل والخارج، والجنة سياق فضائي تخييلي، وهي المتاح التجريدي للكلام الذي ينشأ عنه واقع المتخيّل، والماء هي حالة الفتق والرتق التي تقام عليها النقطة الارتكازية للنصّ التي تتفرع عنها مدلولات الصورة الشعرية واللغوية.
" من أول ضوء الدنيا
إلى آخر خيط في الخيمة
يرثون كهولة المساء
ويدرجون
عرايا
إلى ندهة غامضة
كأن أمهاتهم
أودعن أسرارهن في لهاة الذئاب". 
  وإذا ما أمعنا في ملاحقة اللغة وهي تقوم بعملية رتق الأشياء، فإننا سنحتاج إلى عتبة الديوان" أنأى" كمحرك آني للعملية الشعرية، إذ لا تمكننا الرؤية من متابعة التزاوج بين ما هو مفتوح على التأويل، وما هو مغلق أمام التأمّل، إذن يحاول الشاعر أن ينأى بعيداً عن الذات ليستكمل شروط الواقع، وينأى قريباً أو داخل الذات ليستثمر تلك الشحنات الكهربائية التي تصدر عن حركة الحواس، فهو " أي الشاعر " وإن كان مشغولاً بالعتبة الأولى للديوان، إلا أنه لا يعتبرها إلا مدخلاً فقط للدخول في ما ترتبه من حراك تبادلي بين الحواس اللاقطة والحواس المنتجة.
" فمي:
صخرة نافرة
لو يكسر صمته
ويفتح على قلبه الأبواب مشرعة
لقالت الأرض سرّها
وقالت الجبال صمتها
فمي لو يبوح
يذوب فخار الكلام
وتسقط الحكاية على وجهها"
  وللتأكيد على أهمية الفاعلية التبادلية بين اللغة وعناصرها المتحركة في التركيب الجمالي، تظهر نية النصّ الشعري، وهو يقود سلالة الذات إلى مقصورتها الداخلية بعد أن تكون استكملت ملامح الاختزال، اختزال المضمون السردي، وإمكانية صهر المتجانسات في حالة واحدة، لا لتشكل الذات بل لتفردها في سياقها التخييلي
إفراداً تقوده الرؤية باتجاه الداخل المخفي، ليصبح فيما بعد حالة وسطية يستطيع الشاعر من خلالها مراقبة الداخل، وإمساك ما تبقى من خارجها.
" أنظر في المرآة
فأرى وجهاً غريباً
وجهاً غريباً أراني
وأرى ملامح تنكرني
أمدّ يدي إلى يدي
وأغمض على العين عيني
أمدّ يدي إلى رسم ظلي
فيسقط
وتسقط يدي
وأبقى... وحيداً، مبعثراً، عارياً
خائفاً، جامداً
وأذوب
فيهرب ظلي"
  إن هذا التقرّب أو المقاربة بين مفتاحيّ الذات، هو ما يمكننا أو يعطينا القوة، أو يضيء لنا السبيل للكشف عن مغريات النصّ الشعري وهو يعيد بنية الداخل من خلال تسليط الضوء على شهوتها الكامنة عبر محاولة النأي، وتطهير مساحة النصّ الخفيّة التي لم تكن قادرة على إظهار رغباتها وهي ترزح تحت وطأة الخارج، ولكنها وفي أول إطلالة لهذا البعد التقريبي، البعد الذي يعود إلى الداخل لغايات الإمساك باللحظة الشعرية الطازجة، تستعيد حضورها المادي، بحثاً عن دمج أو تحريك جملة الانعكاسات التي تفرضها الرؤية.
" فاقتلوا تراباً مسّ ظلي
واقتلوا الهواء
اقتلوا ظلي
يعيدني الطين مرة أخرى
خزفاً ملوناً
تعيدني الحروف والكتابة
آية
وتسبغ المرايا ظلها على عريي
فأعرفني"
  وتعود معادلة الذات في مواجهة المتغيرات لفرض نمط آخر من أنماط تعين الدلالة الواقعة بين حصارين لغوي وشعري، حصار يتشبّث بالمسميات كمنطلق تكويني للذات، وحصار يتشبث بالمعطيات كإطار جمالي، وبينهما حراك فعل الرؤية والذي يعود في أصل العتبة، عتبة الديوان إلى " أراكِ " والذي يثبت لنا أن كاف المخاطب عائدة على الذات المتكلمة، أو الذات الشاعرة، وهذا ما يجعلنا نؤكّد أن النأي، ما هو إلا عودة للداخل، الداخل الشعري المستند على سعة التحقق والمتمثلة في أنأى " الرؤيا " وأراكِ " الرؤية " وهما خطّان متلازمان في المنهج القرائي للنصّ، ومختلفان في عمق الدلالة البصرية للمساحة الخفيّة.
" رأيتني
بين نورين
ظلاً يرقص في الماء
رأيتني بين غيمتين
قمراً يدندن في المساء
رأيتني أقطف عن غصن امرأة
تفاحة الحياة
فأشقى
رأيتني في برزخ لا ينتهي
بين ظلمتين
وعتمتين
أفيق من نوم أبدي
ومن خدر يصحو " زوالي "
  وبعد أن تكتمل دائرة العنوان، وبعد أن تضع حمولتها على أرض صلبة ومخصّبة، يبدأ النصّ الشعري بالانتباه إلى الدوائر الشعرية الأخرى، من حيث حساسيتها وقربها من طرفي معادلة الذات " أنأى، أراكِ" ليكتمل المشهد الكلامي الشعري بناء على ما تصوّره اللغة ومدلولاتها، وما تقرره شعرية الوضوح، هذه الشعرية التي تقترب من المعنى حد الخفاء، وتتخفى فيه حد التجلّي، وهما وجهان آخران للعنوان حيث تغدو الصورة الشعرية وقفاً على " أنأى، الخفاء" فيما تغدو الصورة اللغوية وقفاً على " أراك، التجلي"


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x