خفقة الذرى / فخاخ الذات



   المعنى هو بداية التشكّل الدلالي الناتج عن تجاور الصّيغ البنائية، وهو استباق الفعل الذهني الذي تحدّده معطيات الذات الموغلة في قراءة الآخر " المعنوي والمادي"، وهو انفراج طاقة الحراك الذي تحدثه الحواس مجتمعة.
    وإذا ما أمعنا النظر في الحراك الذي تحدثه الحواس، نصل بالنتيجة الموضوعية إلى أن المعنى تحدده فخاخ الذات التي تُبنى على مزج المفردات مع إخفاء ظاهرها الدلالي.
    والمعنى أيضاً ربما يكون صورة من الصور المحدثة في عالم الإضمار، إضمار الذات في قناعها الملتبس، حال تمرّدها على واقعها المرئي، من هذا التوصيف يلج الشاعر غازي الذيبة في ديوانه " خفقة الذّرى" إلى مفهوم المعنى كونه مُحدثاً لا حادثاً، وكونه سياق انتقالي من وَهمٍ لغوي، إلى لغة وهميّة ولكنها ذات صلة بالمنشئ، منشئ النصّ.
أعنّي على الكلمات
أعنّي عليّ
على جسدي نقط الضوء
نار ستصعد
دمع
شهيد أخير سيبدأ بالنهر
شعر
مساء رقيق
حمام تساقط قبل هجوم الغسق
أفق.
   هذه هي النقلة النوعية التي تحدثها الكلمات في مسيرتها نحو تشكيل معنى ما، وهي بلا شك انفراج طاقة الحركة، حركة المحيط التي يستدلّ بها الشاعر أو يستنجد بها لملاحقة الراهن، فالراهن رغم انكشافه بصرياً، إلا أنه حراك غير قادر على فرز معطيات الذات المنفعلة.
همو وحدهم
يقرأون الرواية في ضوئها
يعرفون الحقيقة كيف تشكل أرواحهم
وكيف تسوّرهم بالغناء عن الحب
حدّ ارتفاع الشجيرات في حقلها
وانبثاق الدعاء كما رقة الماء
يوم تفيض المياه بأرواحهم
والحبق.
   التمدد البصري الذي تحدثه النقلة النوعية في استقطاع الجمل الشعرية، تمدد واعٍ سببُهُ النزوع إلى إقامة تيار لغوي موصل لكهرباء الانفعال التي يحدثها التحام عناصر متعددة، منها عنصر التردد الذهني، وعنصر الإيقاع الخارجي للمعنى، وتفريع المعنى إلى دلالات جوهرية، وانزياح الظاهر الدلالي إلى موئله الأول، الموئل البنائي للكلام، وعبر هذا الالتحام أو الانسجام الكلي الذي ينحسر عن المعجم الدلالي للمعاني، تبدأ صورة النصّ وكأنها نتاج الداخل اللغوي الراهن في العملية الشعرية برمتها.
هنا كتب الماء أنهاره
كان للخفق صوت
وكان لمعناه أن تتحلى الجميلات بالشهد
أن يرتدين مفاتنهن لمن يقبلون على لهفة الموت
أن يتزيّن للقادمين من العرس
أن يعترفن لهم بالهوى.
  هكذا تولد فتنة المعنى، بعد أن يسخّر لها الشاعر الراهن اللغوي، بعيداً عن الإضاءة غير المجدية في عتمة الحدث، أو الفكرة، لأنه بهذا الراهن يضيء مساحات أخرى للفكرة غير مرئية، أو طازجة بعد حراك الانفعال والتصدي لمواجهة المعجم، وبذلك يسترعي هذا الراهن حواس النصّ الشعري قبل حواس الشاعر، وهو ما نقصد به الداخل اللغوي، فالنصّ هو قائم بذاته قبل حراك اللغة، لأنه نص مختزل في جملة من معطيات الذات الساكنة.
لقد جرّدتنا المعاني من الخوف
ألقت على ناينا بحة وعتابا
وقرب شهيد يعد بأمطاره قمراً خارجاً
من غبار المعارك
كان نهر من الضوء يوقظ في رهبة الليل جرحاً
ليصعد تلاً.
  وبعد أن يطمئن المعنى لفتنته في الحراك اللغوي الداخلي، يبدأ التأسيس لمرحلة أخرى من مراحل إنتاج المعنى، وهي مرحلة حرق المسافات بين اللغة كإطار شمولي يحمل الدلالة، وبين اللغة كمُعطي كلامي.
وقليلاً قليلاً سندخل بوابة العزف
نزين قبلتنا بالجهات القريبة من رجفة اليد
نلملم أشياءنا في المنافي
وأشياؤنا في الحنين نسوّرها بالدعاء
لتمشي بنا في الشوارع دون ارتباك
أو بعيداً عن الانتظار أمام حرائق أعدائنا.
   إلى ذلك يستبد المعنى الظاهري بالمنتج اللفظي، مما يحقق وعياً للشاعر أمام تداعي الصور التي تحقق له قدراً كبيراً من الحرية للولوج إلى المساحات الخفية، حيث تضطلع هذه الصور بتقديم رؤى ذات أبعاد انفعالية يستثمرها الشاعر لتحقيق التوازن بين الفكرة وتشعبها والداخل اللغوي.
أنا سورة حزن كثيف
ومعنى تدفقه ينهمر
أنا من رفاق المطر
حالم كالسهول
نافر كالشجر.
  وكما أنّ الصور هي المحرّك الرئيس للداخل اللغوي، فإن إلحاح الدلالة التي تختفي ما وراء هذا الداخل، هي المحرّك الشعري الذي يحدد بنية الجملة، بدءاً من الإظهار الخلفي للصور، وانتهاءً بامتلاء الإيقاع السردي بمكوناته الروائية، فالمعنى هنا ليس محدوداً بنصّ آلي تحكمه مجريات الكتابة الشعرية، بل يتعدّى ذلك إلى النزوع لإنشاء محطات تتوقف فيها الشعرية على مدى الترابط النفسي بين الجمل.
أعنّي على رغبتي في التحرّق للنهر
في ارتجاف يديّ أمام العبارة
في دهشتي حين أرسم خطاً صغيراً من الخوف
بيني وبين الختام
ستخرج قافية من سواقي الغمام
وفي لهفتي حين أرشق وهماً من الخوف.
   الإظهار الخلفي للصور هو مكمن التوقّع الذي يلجأ إليه الشاعر، لغايات الوصول إلى درجة الطمأنينة بأن النصّ هو تظهير الداخل اللغوي بعلامات تكشف عن أبجديتها المؤسسة للفعالية الشعرية، وهو إظهار قائم على الترقب والحذر والخوف من شتات الصور التي تجمع في قبضة واحدة معراج النصّ ورغبته بالانكشاف والكتابة.
إذن يا إلهي
كم رمحت أمام الطريدة
وكم طردتني يدي
هنا جسدي، وعند رماد الوقيعة ناري
وليس بعيداً عن النار زهوي
قريب من الشجرات
وأبعد من شهقتي يا زفيري
انتظاري.
هذه هي حقيقة الانشغال بالتظهير الداخلي للغة، أن ينشىء الشاعر نصّه، ليتمدد أو تتفرّع عنه إيقاعات مختلفة، تصبح في معراجها حيواتٍ جديدة، لها حراكها، ومنازلها، وأيقوناتها، ومفاتيح أسرارها.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x