أغنية ضد الحرب / الذوات النصيّة المُخصّبة



   في التحام الذوات النصيّة المُخصّبة يتقدم الشاعر من" الأنا " ببطء شديد، من أجل إقامة علاقة تحترف الإصغاء لكلّ ما يتمخض عنه ذلك التشابك بين طرفي المعادلة الشعرية، ذات النصّ في التقاطها للمعنى، والأنا في تتبعها لشمس المعنى، للحقيقة التي تتبع المعنى، بدءاً من استقطاب المفردات وتزينها بالرابط المعنوي، وانتهاء بالجملة واحتفاظها بالتقابل الدلالي لكلّ مفردة.
    وفي خضم هذا الإصغاء يسترجع الشاعر قنوات اللغة التي تصبُّ في المعرفة القرائية للمتلقي، القنوات التي تشكل نوعاً من الحراك المسرحي بين المتلقي وذاته، لتضاف هذه الذات إلى الذوات النصية.
   ديوان " أغنية ضد الحرب " للشاعر حكمت النوايسة، يعد تجربة متقدمة في مسرحة شعرية النصّ، فالبناء الذي يجريه على التداخل اللغوي مناط به تقديم إيقاعات متحركة ومتلوّنة جراء التقاط الأنا للمعنى الشمولي الذي لا ينتهي بإسدال الستارة على مجريات القصّ، بل يمضي قُدماً في الذاكرة العينية للمعنى ذاته، بعد أن تفرغ الأصوات حمولتها وهي تبحث عن محورة الشخصية الفكرة.
قلتُ: لم الحرارة في الحروف
فجاءني صوت يقول:
الآن تدفئك الحروف
وسوف تلعق بردها
وما بكيت
وفهمت ما لا أستطيع
وقفت في بغداد ألتمس الحمام بساحة التحرير
قال الشاعر المجنون: طار ولا يحطُ
   استدعاء الأصوات في شعرية النصّ يشكل إيقاعاً سلساً لحضور المعنى، ويرفد حضوره بالطاقة المادية، فهو معنى ملموس مادياً، لأن المتلقي يقف أمام مراياه وجهاً لوجه، لا مواربة في ذلك إلا بحدود ما تتيحه حركة السيناريو من تدخل الأنا بالذوات، فالنصّ بهذا المقام هو نصّ تشغيلي منفتح على التداعي الذي يفرضه حضور الشاعر في وسط هذا الانشغال.
قالت الناس: الغريب
وها أنا
في مركب الغرباء
مذ آخيت نجمك سابحاً في الكون
أضحك
غابة بيضاء قادمة
وأضحك
شارع يمشي وناس واقفون.
   ويستمر إغواء تحريك السيناريو باتجاه التقاط المسكوت عنه، ليقبض على مساحة نارية في التعامل مع الإضاءة الشعرية، هذه الشعرية التي تنشغل بتسليط الإضاءة على المداخل الرئيسة التي تستنطق الأصوات فيها قيمة الأثر النفسي الذي تعاني منه الذوات في التحامها مع الأنا.
وقلت: تحذروا
هذي الرياح غشيمة
من ثم ناديت: استعدوا، وما استعدّوا
ورموني في الصحراء أصحب خيبتي
وتوسّدوا في ظلمة الأحلام أحلام المضارع
خانت الأوهام أوهامي
وقال الشاعر المجنون:
ماذا يبتغي الماشون في هذي الشوارع.
  ويبقى الصوت أمام هذا الالتحام هامساً، لا يثير جلبة، لكنه في تنقّله عبر المشاهد المترجمة للذات واقعاً، يبدأ برفع وتيرة الصوت، لكي ينجو من الهامش اللغوي.
تفرّس اليافيّ _ أستاذي_ بوجهي ثم قال:
ستبرد اللغة، وتظلّ وحدك حارس الإيقاع
جمراً إن زفرت فلا تطاق
وعادها المصريّ بالفنجان
قلت: أنا الخليّ إلى الخلية أنتمي
دخ يا دمي فيها ودوخي يا تفاصيلي.
  ولا تدع الأنا في تشابكها مع الذوات الملتحمة والمتقدّمة لتنوير المساحة الخفية، جزئية إلا نقرت على بابها، لإتمام تشابك المعطيات الكونية، للوصول إلى صورة مرئية ولكنها قابلة للتأويل، فالمعطى هنا وخاصة أمام ارتفاع النبرة الكلامية، هو إيقاع إسنادي للفكرة، الملمح، الإطار العام الذي يستظهره السرد الشعري.
_ أولست المنتظرَ؟ _ نهرتني كلاب جامدة
_ أولست السرّ؟_ قال لي الباب
_ أولست البداية؟_ قال لي التراب
_ أولست النهاية؟_ قال لي ماء
  _ أولسست العطش؟_ صاحت بي رمال
  وحركت رملاً موغلاً في جسدي.
    وتتحرك الذات اللاقطة باتجاه الإمساك باللغة المناط بها تقديم إيقاع الحياة، ولو كان الهامش ساكناً مقيّداً، فالتقنية التي تدخل هكذا منفتحة على النصّ الشعري المتحرّك، مثل عبور الرمح في جسد الشجر، يحرّك اللحاء، ويفتح نافذة مضيئة في العمق.
قال: نصيحتي أن تنبذ الإيقاع
برّد ما تشوف من المنام
وبرّد التلحين
برّد ردّ فعلك
برّد الإيقاع
خذ قسطاً من النثر الذي لا ينتمي
عش هكذا
ورمى إليّ بدفتر.
   هذا السياق الواعي لشعرية الحركة في التعامل مع الذات اللاقطة، هو الذي يقدم للنص الموجّه مسرحياً، إمكانية الالتفات إلى المحيط بعد أن يثمر العرض الشعري عن نفس جديد يتعامل مع مرايا الحياة بشكل انتقالي من فائض لغوي مشحون إلى مفاصل آمنة تنجو من الهامش النثري بارتكازها على تمثّل أحوال الشخوص التي تداعى من نافذة القول.
أنا وجاري
وزملائي في المهنة
وسائق الباص
وعامل محطة الوقود
والممرض في الفترة المسائية
وشرطة المرور
وبائعة العلكة
وأبو العلاء المعري
كلنا نعرف أن غداً يشبه الأمس
ونتفاءل.
    إن هذا الارتكاز على المفاصل الآمنة، هو الذي يجعل من الذات ذاتاً شعرية تأخذ بالمسببات، وتتعامل مع الفضاء الشعري باعتباره سلّماً ذي مدرجين بهرمٍ واحد تحتكم إليه العملية الشعرية برمّتها، ثم تبدأ " الأنا" الكاشفة بالاقتراب من ذوات النصّ الشعرية، الذوات التي نلحظ اعتنائها بالأصوات، لما تمثله من مُعطى تكويني للصور الشعرية، ولما تختزله من إيقاعات، بدءاً من التقاطها لبذرة الفكرة، الملمح، وانتشارها في الفضاء البيني بين الفكرة واللغة، لتصبح شاهداً على الحراك المفصلي للمكون الشعري.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x