كزهر اللوز أو أبعد / محمود درويش

 


   شمس الذات المطمئنة 

   في الشعر تبدو فعالية  الذات ومعززات وجودها وانشغالها بما وراء الفكرة أو ما هو أعلى من أنساقها من الإشارات الواضحة لحضور العتبة الكبرى للنصّ الشعري، من هنا تبدأ الذات الشاعرة بالقفز عن كثير من محطات التجربة، تجربة اللحاق بالمعنى ودلالات التجاور، حيث تنشغل بأدقّ تفاصيل الإيقاع، إيقاع المعنى متصلاً مع بنية إيقاعية ذات جرس وقفي غير خاضع للقياس، ولا يتأتى هذا إلا بعد أن يصبح الشاعر أمام غيوم المراوغة، تلك المراوغة التي تضبط حدود الديوان ككيان جامع لذات واحدة.
   تحديد هذا المفهوم، أو ربطه بتجربة سيق لها من الجماليات ما هو مربوط بالمفهوم الإلهامي، أو المفهوم الذي تنبسط فيه قوّة الوعي ودلالاته المعرفية، مع جملة المفاتيح التي تنحدر من فضاء التشكيل، تشكيل المعنى الإيقاعي للمفردة، وانفتاحها عن بؤر التخزين، التراثي والإنساني مثلاً، من الصعب بمكان أن نحدد له آلية للقياس، ولكننا نستطيع أن ننضبط داخل كيانه المتشعب، مراقبةً، وإسناداً، وتفكّراً بما ينجزه النصّ من عوالمَ _ رغم مراوغتها_ ذات مواصفات إنسانية ملموسة.
   الشاعر الكوني " وهي تسمية أحبّ أن أطلقها على الشاعر محمود درويش"، شاعر استطاع عبر مرايا قصائده أن يحدد الذات ويعرّفها، بلا تكلّف أو نسخ، واستطاع أيضاً أن يكشف تقلّباتها وأحوالها، وأن يستقرّ على ذات واثقة مطمئنة.
   إن مجمل ما كتب درويش يحدد هذه الآلية، وينعش هذا التفتّح المعرفي للذات المطمئنة، وهي في أولى تجلياتها، وانجذابها إلى المُرَكَّب الصعب، المُرَكَّب اللغوي التجاوري.
   في مجموعته الشعرية " كزهر اللوز أو أبعد " ثمة عتبة كبرى، عتبة تتعمّق فيها جملة الكيف، عتبة اختزلت فيها كافة العتبات الذهنية والنفسية، الضيقة والمفتوحة على ملكوتٍ لا ينتهي، المؤازرة لفاعلية الهدم، والمنضبطة في حدود البناء المتراص الذي يتخذ من الهدم حجاباً لواقع معاش في الذرة التي يعوّل عليها البناء من جديد.
   في الذات المطمئنة ثمة باب مشرع على الاتجاهات والاحتمالات كافة، ثمة تقطير للأفعال التي تعود على نقطة البداية، بداية التشكل، بداية الجمهرة، وبداية النظر من علٍ، النظر بعين المعرفي، المعرفي الذي يترفع عن السطحيات، ويرى في نفسه إمكانية القيادة، قيادة الآخرين إلى حوض المعرفة، لهذا لا تتوانى الذات لمطمئنة عن تحييد النفس لصالح الذات المجموع، وهو تحييد مبني على قوى كامنة في الذوات التي انسلخت عنها:
وأنت تعدّ فطورك
فكّر بغيرك
لا تنس قوت الحمام
وأنت تخوض حروبكَ
فكّر بغيرك
لا تنس من يطلبون السلام
وأنت تسدد فاتورة الماء
فكّر بغيرك
من يرضعون الغمام
وأنت تعود إلى البيت، بيتك
فكّر بغيرك
لا تنس شعب الخيام
  ربما تستأثر الذات المطمئنة على الذوات وهي في طريقها لتغييب النفس كلياً، ولكنه غياب ضمني يحفظ لها أثرها، فهي وإن أطلقت شرارة التفكير بالغير إلا أنها في كل ذلك تستند على أنها مفتاحاً للذوات، مفتاح وصول لا مفتاح انقطاع:
وأنت تحرر نفسك بالاستعارات
فكّر بغيرك
من فقدوا حقّهم في الكلام
وأنت تفكّر بالآخرين البعيدين،
فكّر بنفسك
قل: ليتني شمعة في الظلام
   وتكتشف الذات المطمئنة في مجمل تقلباتها سكّة الذوات بدء من انتظارها لحظة الانطلاق وانتهاء بلحظة القطف، حيث أنها تعي تماماً أن الحراك النصّي ما هو إلا مقدمات جزئية تشتدّ وتضعف، يعلو صوتها ويخفت، تكرر نفسها وتشطب ما علق بها من زوان، لأجل لحظة البعث، بعث النصّ الشعري من مادة ورقية إلى أفق كياني كائن في النفس البشرية.
لا أنام لأحلمقالت لهُ
بل أنام لأنساك. ما أطيب النوم وحدي
بلا صخبٍ في الحرير، ابتعد لأراك
وحيداً هناك، تفكّر بي حين أنساك
لا شيء يوجعني في غيابك
لا الليل يخمش صدري ولا شفتاك
أنام على جسدي كاملاً كاملا
لا شريك لهُ
   إذن لا حدود للذات المطمئنة بعد أن صهرت _ وهي نائمة تحت حرير الكلام _، جميع الذوات الجزئية في النصّ، لتخلد وحدها في مساحة النهوض، بعد أن تستلم من الشاعر نصّه منفتحاً على أثير الحياة، وبعد أن تغيّبهُ، لتحمل أعباءه وحدها وهي تسعى في مرايا المتلقّين، لتعكس حراك الذوات كما ترى هي، لا كما يرى الشاعر.
هيَ: هل عرفت الحبّ يوماً؟
هو: عندما يأتي الشتاء يمسُّني
شغف بشيء غائب، أضفي عليه
الاسم، أيّ اسمٍ، وأنسى
هيَ: ما الذي تنساه؟ قل!
هو: رعشة الحمّى، وما أهذي بهِ
تحت الشراشف حين أشهق: دثريني
دثريني!
   وعندما يستقيم فعل الذات المطمئنة، ويطمئن الشاعر بأنها قادرة وحدها على تفعيل الذوات كواجهات للنصّ الشعري الداخلي المغيّب في الخارجي، عندها سيّان أكان موجوداً في الإطار الخاص للنصّ، أم في الإطار العام، لأنّ ما يهمّ هو إبقاء حيوية النصّ قابلة للحياة.
وأنتِ معي يعرق الصمت، يغرورق
الصحو بالغيم، والماء يبكي ويبكي الهواء
على نفسه كلما اتّحد الجسدان
ولا حبّ في الحبّ
لكنه شبق الروح للطيران
   إذن منذ أن تطلق الذات الباحثة شرارة التكوين لنصٍّ محتمل، تتدخل الذات المطمئنة في مجريات السرد الشعري، تماماً كراوي الرواية، لا يظهر الراوي إلا لماماً في الصفحات المحبّرة، ولكنه في السطر الأخير يفصح عن نفسه إفصاحاً تجاوريّاً، من هنا نرى أن الذوات الشعرية في كثير من النصوص لا تلتزم بالترتيب البنائي الفكري للنصّ، خارجة عن سياق الكلام، في محاولة لتأصيل النفس وراء كلّ جملة مفتوحة على احتمالات التأويل، ولكن الضابط المستأنس بنفسهِ وقدرته " الذات المطمئنة" يمتصّ هذه الفوضى، ويقدمها ظلاً لحكمتهِ وقوة تأثيره.
وأسألها: كيف جئتِ؟
تقول: أتيتُ مصادفة. كنت أمشي
على شارع لا يؤدي إلى هدفٍ
قلتُ: أمشي كأني على موعد
ربما أرشدتني خطاي إلى مقعد شاغر
في الحديقة، أو أرشدتني إلى فكرة
عن ضياع الحقيقة بين الخياليّ والواقعي
   وأخيراً عندما تستشعر الذات المطمئنة بأنها أصبحت متوّجة على الاسم والمسمّى، تعيدُ دورة الكلام إلى مبتداها، لأنّ حقيقة النصّ الشعري واكتنازه على هذه الفضفضة الإنسانية لحقول المعرفة، وتوازنات الفكرة، لا يمكن لها الانفتاح على الداخل الشعري إلا من خلال دمج التابع بالمتبوع، عبر قوّة مؤثرة وجاذبة لا يملكها إلا الشاعر في المستوى القرائي الأول، والمتلقي في المستوى القرائي الثاني، وبينهما حقل من الدلالات التي تفرزها الذوات في مسيرتها نحو تشكيل نصّ لا يقوم إلا على مثل هذا الانفتاح المتخيّل للكلام.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x