مطر على قلبي / الذات في سياقها العالي


 
   ومن فعالية الذات الحاضرة في الشعرية المتحركة التي تبدأ من ذات واحدة وتتحول في السياق النصي إلى ذوات متعددة، التعدد الخطابي المستعاد من الوعي التابع لها في لحظات التجلي، لأن ذلك يشكّل وفق المعطى الشعري حالة من التمرّد على الذات نفسها، وعلى محيطها، وفي أغلب الحالات هو محيط تابع.
   ولأن المحيط تابع في أغلب الحالات التي يقتنصها النصّ الشعري، فإن الذات في مسيرتها تأخذ من الصور الشعرية مجالاً لسرد السياق العالي لها، عبر تحييد المقام، والانشغال بالحال لغة.
    ومع ذلك تسترعي الذات في سياقها هذا، انتباه الوعي المفتوح على المحيط، وتقدّمه كواحة ذات مضامين تشكيلية، لها فضاؤها، وخطوطها.
    وتشكل اللوحات الفنية في ديوان " مطر على قلبي" للشاعر نضال برقان، إيقاعاً استثنائياً للذات المنشغلة بالتعددية اللغوية، فالنصّ اللغوي في الديوان هو نصّ مستقل عن النصّ الشعري، أي أنّ قصيدة برقان تتوفر على نصين، نص لغوي مشفوع بنص شعري، وهذا ما يجعل من قصيدته، قصيدة مغايرة للحقل الشعري الذي ينتج عن تمازج النصين في حلقة واحدة، فالحقل الشعري هو فضاء مفتوح على المدركات المادية التي يعالجها، فيما يبدو النص اللغوي مفتوح على الفضاء التشكيلي، والنص الشعري تابع لهذا الفضاء.
لي وحشة الطرقات
إذ تصحو المنافي في دمي
ولها السنابل والمعاول
عودة الصبيان للحارات بعد القصف
إصرار الحمام على حماية أفقه
لما تجيء الطائرات
بكل ما في الأرض من خوفٍ
كلام العاشقين لها إذا ضلّ الكلام وكلما ذبح الوشاة حقيقة_ في أيّما أرضٍ-
تفرّ لها الدماء.
   وتتحفّز الذات في طريقها لتصوير سياقها العالي المعمّد باللغة، للإيقاع بكلّ ما هو ذهني، لتحفيزه ودفعه لاستجلاء ما هو كامن في ثبات اللغة المعجمية، فالمعجم هو تابع للكتلة الشعرية، أو هو مكان إسنادي لهذا التمازج الجميل بين نص اللغة ونص الشعر.
ولها الذي ما لا يقال من الكلام
لها الذي ما لا يجيء من السلام
سلامنا
ولها الكواكب
كلما شرب الندامى أينعت في حِجرها
وتفتحت من حولها الأحجار
تشعل نارها
وتطير
تصحو في دماغي دمعةً
وبقلبها تصحو سماء.
   والذي يساعد الذات المختزلة على استدعاء ما يوفر لها من ملِكات صورية في طريقها البنائي الشعري هو الاعتماد على قوافي محددة متلاحقة ذات فضاء انتقالي، لجهة تسليح المعنى بعتبات قادرة على تفريغ الشحنات المتصلة ببؤرة المركز النصي، الفكرة في أغراضها المتعددة.
بدون نبات
بدون نوافذ أو كلمات
كأني فراغ ضرير صدي
ثقيل غيابك في جسدي
ألملم بعدك ما يتساقط من أنجم
ومواسم في الطرق المتعبات
ألملم حلماً كسيراً بقلبي
وحلماً تكسّر حين تنفّست الحرب
بعدك
كانت ولما تكن بعد أمّاً
فظلّت تموء على العتبات.
   وإذا أردنا تفصيل النصين بنوع من التفكيك النقدي، نجد في مقام النص اللغوي " بدون نبات، بدون نوافذ أو كلمات ومواسم في الطرق المتعبات"، بينما يظهر النص الشعري في " ضرير صدي، حلماً كسيراً بقلبي" تنفّست الحرب"، وهكذا ينمو الحقل الشعري من هذا التمازج الجميل، ليبدو نصّاً استهلالياً له جمله القيادية التي تقوده إلى الانفعال.
أشمّك من بعد عامين وزلزلتين
وبعد عناق خجول صدي
أشمك في جسدي
أشمّ تراب يديك وأنسى يباسي
أشمّ السهول على ضفتيك
فتخضرّ روحي
أشمّك في غربة الأبد.
   ولكن في سياق هذا الاحتفال اللغوي الذي ينتج التركيب البنائي من مستويين اثنين، مستوى قرائي، ومستوى دلالي، يتجه الحقل الشعري في تعددية الخطاب إلى تحميل النصّ الشعري مستوى آخر، مستوى السرد الذي يعمل على تفريع الجمل الشعرية إلى الحقل الدلالي الأول، لينمو المشهد الفني بيسر أمام تداعيات الحمولة اللغوية المعجمية.
بالحقل، بينا الكل مشغول بمحصول البطاطا، أيقنت أمي بما سيكون، ثم سعت على مهل لعمّتها، حفيدتك الشقية آن موعدها، وغادرنا على مهل إلى البيت الكبير، وكل من بالحقل واصل شغله من غير أين ولا لماذا، إنها الأشياء تعرف ما أنيط بها تماما.
   هذا الاشتغال على صهر مراحل متعددة من البناء الشعري، يقود الشاعر إلى مثل هذه النثرية الشعرية، وهو اشتغال قائم بذاته في النصّ الشعري قبل تمازجه مع النص اللغوي، فالحقل الشعري لا ينمو بغتة كما يخيل للقارئ منذ القراءة الأولى لمثل هذه النثرية، فالشاعر هو أساس البناء، وهو المُعطى الانفعالي، وهو أدرى بالمساحة المرويّة للشعرية التي يلتقطها من مثل هذه النثرية التي تقود النص وفق رغبة الشاعر إلى محو الظلال التي نتجت عنها، والنثرية الشعرية هي جمل وسطية لاقطة ورابطة بين طرفي المعادلة الشعرية اللغوية والنصية.
كأنك أنت، وكل الملا غيرهم
باتجاهك تجري الرياح
وتخفق بين يديك القطا دونما فزع
يا سلاماً يسير على قدمين
لقد هبطت كل ربّات روما
على الأرض بعدك
مارسن أشغالهن مع البسطاء بفخر
وكل دجى يتجمع حولك.
   ورغم الإشكالية التي تحدثها النثرية الشعرية في جسد النصين من إرباكات دلالية وتخيّلية إلا أنها تضفي على المجال اللاقط للذات المختزلة، قوة مغناطيسية تجذب أطراف المعادلة، وفق ما يحتاجه البناء التصويري، وهي قوة كامنة في النصين لكنها غير ظاهرة، لأن الذات في مثل هذا الانتقال من بلاغة اللغة وعمق انزياحها الدلالي الشعري، إلى مراد السرد الحكائي، تستند على واجهة لغوية قابضة للمعنى في سياقه الخطابي العالي، موحّدة الحال لغة واتجاهاً.
لم أكن إلاك
والأشياء من حولي أنا
وأنا المعلق من سماواتي بكافك
فاتركي في البال كلك
كلما لمحت رياح ما عبيرك
واتركي إيقاع ليلك في سريري
واتركي إيقاع صبحك في نهاري.
   وتكتمل دورة الذات في معالجتها للنصين، بعد أن تكون قد فتحت لهما نافذة للامتزاج معاً في هيئة واحدة، ليطلَّ النصّ الشعري دلالياً من نافذة النص اللغوي والشعري معاً دون حاجز بنائي أو تخيّلي، فاللغة تؤدي وظيفة دلالية للمعنى كما هو الحال عند النصّ الشعري، فكلاهما يقع في المساحة المرويّة للذات في سعيها لإنشاء حقلها الشعري.





إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x