سلالتي الريح، عنواني المطر / ميثولوجيا الذات


   تبدأ الذات في المنزلة الأولى للقول الشعري، باستعارة اللغة للكشف عن السياق الملحمي، أقصد بالسياق الذي يتلمس الواقع من خلال التقاطعات التي تجرى أثناء البناء الشعري الذي يعتمد في بنيته الكلامية على استدعاء الأمكنة والشخوص، للتعويض عن اللطيفة التي يدفنها الشاعر في طريقه لتلمس المنزلة الأولى في القول الشعري المحكوم بالبحث والتنقيب عن جوهر المعنى.
   ويأتي الجوهر في ديوان " سلالتي الريح، عنواني المطر" للشاعر موسى حوامدة، محفوفاً باللغة التي تتخذ من النسق التنويري معلماً واضحاً للإطاحة بكلّ ما يعبر اللغة من أوجه صوريّة غير مخدومة بالكشف عن مصير الفكرة.
    والشاعر في طريقه هذا يستغني كثيراً عن الملطّفات اللغوية، أو  خدش المرايا بحجرٍ زجاجي المطلع، لأنه مشغول بما وراء اللغة، ولا يقتنص إلا كلّ ذي مصبٍّ يندفع باتجاه تحرير الكلام من أداته الوصفية.
للغيوم نهار آخر
للخديعة طعم الأبوة
للمشانق حكمة تخفيها الرهبة
آن يحملنا النهر إلى أخطائنا الأولى
آن يجمعنا النهار في وجبة سيئة
آن يجرفنا العجز في أتون المنفى.
   وتوحيد المعنى يحتاج إلى قراءة المتاح من أسرار الفكرة وطرحها في السياق الشعري، لهذا يلجأ الشاعر إلى تحريك الذات باتجاه تناول المألوف من اللغة، ولكنه مألوف آني سرعان ما تنعقد له جملة الانزياح التي ترافق بنية الشعر الخاضعة للمنولوج الداخلي الذي يقدم إضاءته كملجأ للفكرة.
سامحيني يا مليحة
سامحيني فلم أستردّ الطاعة بعد رحيلك
سامحيني يا امرأة
سامحيني أيتها النائمة الجميلة
تحت طين الذكريات.
   إنّ مثل هذا التملك الإيقاعي الذي يستند عليه الشاعر بالتكرار الأسلوبي، هو موقع التحوّل الناتج عن تظهير الفكرة على شاشة النصّ الأمامية، وهو الشغل الدائم لإنتاج محاور متعددة في جملة النصّ الواحدة، وكأنّ النصّ جملة من القصائد التي تتآخى وفق منظور الفكرة، لا وفق البنية الشعرية المتحركة.
قريبة هذه المرأة
قريبة منك أكثر مما تعرف وتعرفين
أكثر مما ينبغي لاصفرار الدالية
وأقل مما يحبذ المزمار
قريبة منك
حدّ الطفل الذي سبقني إلى جثة الماضي.
   وتبدو هذه المرحلة من البحث عن آلية تظهير ملموس للفكرة، بحاجة إلى إيقاد شعلة من المستويات التاريخية، فالزمن في نصوص الشاعر زمن متحرك ومتحوّلة في آن، فهو زمن قياسي وليس ارتدادي بالمفهوم المتداول، فالنصّ في هذه المرحلة ينكمش على ذاته انكماشاً ماديّاً إذا جاز التعبير، فالتاريخ المستقطع من ذاكرة الزمن القياسي، هو تاريخ خاص بالنصّ، لأنه يملك مفاتيح رؤاه وانجذابه الكونية.
لعلك أنت مني وأنا من ثرى المريخ
لا أنكر صلتي بزيوس
ولا أقرّ بدمه في عروقي
لا أطعن في صحة النهر
ولا أخبئ البحر في خزانتي
سلالتي الريح
وعنواني المطر.
   هذه التشكّل الدلالي هو الذي تبحث عنه الذات في طريقها لقبض المتاح من الفكرة، وهو الذي يوحد المعنى رغم الزمن القياسي، فالاصطدام بواقع هذا الزمن هو انفتاحه على عين الذات الحاضرة، لما تمثله من محمول كوني منطلقه الامتداد، ومقصده القياس، فالبنية الشعرية في هذا المجال هي بنية واقعة بين منطلق تأسيسي للمعنى " سلالتي الريح"، وبين منطلق انتقالي لتوحيد المعنى " وعنواني المطر"،  وتكاد تصل إلى شفوية الخطاب لما تمثله من مخزون حكائي قادر على تهيئة الفضاء للطيران بين زمنين.
طار مني شرّ قديم
طار من رأسي وجع التاريخ
وانتبذت روحاً خفية
حملتني إلى بيت لحم
هناك جانب المذود
وجدت صليبي في غصن لم ييبس
قمت لترتيب الأسطورة
وجدت الهواء يلعب بشعر الفتى.
   ويتابع الشاعر رحلته في التقاط جمرة النصّ، من خلال تدوير المعطى الكلامي من هيئة ساكنة ملقاة على جسد اللغة، إلى هيئة لغوية تبث روح المعنى في جسد النصّ، فاللغة في نصّ الشاعر هي لغة انتقائية تمشي في مسارين متلازمين، مسار توحيد المعنى بين زمنيين متقابلين، ومسار قراءة المتاح من الفكرة، وكلا المسارين واحد، لهذا إذا أمعنّا النظر في نصوص الديوان، سنجد أنها تشكّل مساراً واحداً له رؤاه النصيّة والفكرية، وكأنه نصّ واحد، والفارق هو المخزون الحكائي الشفوي الذي تنطلق منه شرارة التجربة وعمقها.
بح يا نجيع الموت بالفاحشة
قدْ عشتار من يديها
قدمها وجبة لهولاكو المخصي
علقها زينة على مقابر السومريين
جداراً في زقورة بابل
قدمها تبغاً للمرتزقة
ززوّد دم الضحية بعطر الجناة
كل الجناة من نبوخذ نصر حتى مطلع القصيدة.
  إذن هي وجبة واحدة منذ الانحدار الأول لمفهوم الزمن الارتدادي، ولا يشكل هذا الارتداد سوى مطلع النصّ، أو القبضة الأولى للمعنى، ولكن في النصّ ثمة زمن قياسي" الفكرة وما يتاح من تحميسها".
يا قاهر الفلوات اقهر هذه الرعشة
يا واسع الآفاق علقني قنديلاً فوق قبرها
ليست طريقي خالصة للمضي في فتوحات الخليفة
ولست مزمعاً على بناء مجد القدمين
لا رابح مني سوى الرماد
أمضي غريباً فوق طريق الوهم
يشكمني حديد الجسد
نار الغيرة
حقل الأسرة
باكورة العاب الطفولة الصغيرة
أولى كلماتها
اقتراب الغيمة الزرقاء من نبيذ الفكرة.
  في النصّ إذن اقتراب من الفكرة، وليس الفكرة، لأن ما يبحث عنه السياق الشعري في حالات اقتناص الوعي بين زمنين منفتحين على بعضهما، هو الإمساك بالمعنى الواحد الذي يمثله لجوء الشاعر إلى استحداث قيم جديدة للمعطى الزمني، فالاستدعاء للموروثات هو إقامة مثل هذا التوازن بين الاستحداث الذي  يبتكره الشاعر في السياق العام للنصّ، وبين الاستدعاء الذي يستنطقه الشاعر من أجل وحدة المعنى في السياق الخاص الذي يتملك النصّ كنصّ معاصر له قيمه ورؤاه ومنتجه الفكري.


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x