كأني أرى / عبد القادر الحصني


الفرائد العينيّة والماديّة للذات

   ما يمكن لهُ أن ينسحب على بيئة الذات وهي تسعى في طريقها إلى ما وراء النص، انقسامها إلى فرائد عينيةٍ وماديّةٍ، فعينيّة الذات شكلها الهلامي غير المستقر على هيئةٍ واحدة، ومادتها جبلّة الذات التي لا ترى بالعين المجردة، والحديث عن ائتلاف الذات في سعيها للتبادل مع الذات في احتفائها بالتجاور، هو حديث شمعي يكاد ينصهر أمام هذا الاصطدام الفراغي الذي يحدثهُ الفضاء الشعري بمراتبها، مرتبة الوجود، مرتبة التواصل، ومرتبة التلاشي.
   إنّ مثل هذا الوقيعة بين نافذتين كلاهما نابضة وضاخّة للفعل الشعري، قادرة على نسج الخطّ الدفاعي الأول للمفردة التي تسعى الذات لتحفيزها ودفعها إلى البوح بما لديها من علامات وقفيّة شعريّة أحياناً، وسرديّة أحياناً أخرى، وكذلك دفعها إلى محاذاة الفعل الملكوتي الذي ينبض بين مساحتينِ، مساحة القراءة، ومساحة التأويل، فالفعل التكويني قائم على استحداث بنية عينيّة للذات، تتوفّر فيها شروط المصاحبة للداخل، فيما تقدّم الوقفة الشعريّة جملة الفرائد التي تصطحب الماديّة الواقعية التي ينبني عليها مقام اللغة.
   من هنا تأتي جملة الفرائد ضاغطة على عصب النصّ الشعري، متحدة مع ذواتهِ، حيث يغدو الفعل الإشاري ميداناً للتوفيق بين العيني والمادي، وبذلك ينسحب على مرابط اللغة، وأصول التكوين البلاغي، ووجهة النمو الاستعاري للكلام، حتى في أشدّ حالات التكتّم الشعري التي تصبغ قصائد الشاعر عبد القادر الحصني في ديوانه " كأني أرى ".
   التكتّم الشعري هو من الفرائد التي يختصّها الحصني في مساحات التوزيع والتفريع اللغوي، ينهل من ظلالها ما يمكِّنهُ من إقامة فعالية حادثة للصورة، وإنشائها إنشاءً لا يليق إلا بجسدها البلّوري، تشفُّ عن الغيريّة البصرية، وتستقيم مع المدلول الحسِّي، وهو بذلك يتفرّد في نصوصهِ بإنتاج ما يمكن لنا أن نسمّيه " النصّ القيمة "، بميوله ألقيمي الذي ينجز الذات بإنشائها التراكمي، بعيداً عن التفصيص الذهني وانجراره إلى مساحات الحشو والنسخ.
تذكّرت قلبي
تذكّرت أني رأيتك
قلبي تذكّر
تذكّرت شمسك
عبّاد شمسك هذا الذي يعتريني
بروح يبللها النور
ألثم ما يتساقط من رطب الجمر
حين تغطين بالقبلات جبيني
   البحث عن الذات المطمئنّة هو بحث مصاب بذكورة الكلام، لهذا تبقى اللغة متحمّسة للولوج في عينيّة المعنى، معنى إنشاء الحقيقة، لتتوازن اللعبة الشعرية مع إنشائها القيمي، إذا جاز لنا أن نسمي التفصيص الذهني نوعاً من أنواع اللعب، فإذا ما استرسل راوي الفكرة بتفريع فكرته على النمط الاستعاري للتشكّل، فإن عين الشاعر تعمّق من شبكة الوعي، لهذا لا يريد لهذا التفصيص أن يسحب الذات من التجربة، رغم التقية التي يحدثها التمازج المادي مع فضاء الأنا.
سألتك: لا تتركي حجراً نائماً وحده في العراء
ولا تتركي الأرض ترنو إلى زهرة وحدها في الإناء
ولا تتركي عاشقاً، ليقول: " كأني غريبك بين النساء"
ولا تتركيني
   ونجد أنّ الشعرية المستخلصة من عملية بناء الذات، هي من أعمق الشعريات التي تتحدد من خلالها رؤية الأثر البلاغي الذي يستنطق اللغة من بعدها الكوني، فهي في صلاة دائمة للإيقاع بأكثر المسمّيات شفافية، فالذوات في أنساقها المادية لا تتعدّى كونها حارس اليقظة الشعريّة، اليقظة التي يراهن عليها في مساحات التوزيع والتفريع، توزيع النسق الكلامي، وتفريع السياق الدلالي الذي يرتبط مع الأنا ارتباطاً عينيّاً.
 نحن الحوريّات المسحورات المنسيّات
وراء صخور الشطآن،
وخلف بياض الأوراق
  نحن المسكونات بموسيقى الأمواج
وأجراس الأبراج
وإيقاعات المرجان الخالد في الأعماق
نحن التشكيلات الأجمل للفوضى
حين يهمّ التكوين برسم هيولى الخلق،
فترتبك الأرتال،
وتضطرب الأنساق.
   وإذا ما أسندنا حقيقة البحث عن جملة القول الشعري إلى الفرق التركيبي الزمني للذوات في النصّ البصري، فإننا نلحظ بأنّ الذات الباحثة التي لا تتصل بالعملية الشعرية، هي جذوة الانتقال من واقع لم يعد واقعاً، إلى واقع مُتخيّل، مع التأكيد بأنّ الذوات الشعرية هي فصوص القطع والوصل للجملة الاعتيادية وغير الاعتيادية في البناء الشعري.
أقصّ عليه الأقاصيص عن أرخبيل نجوم
يجوس شواطئه بالقوارب بحارة من سلالات قرطاج
أو أرسلهم هانبعل
ليكتشفوا خطة للوصول إلى قلب روما
ولكنهم صادفوا في الأزقة
 بين النجوم نوافير، ينحتها العنبر
ويصنع منها صبايا
يمسن، كما قصب المصّ والسكّر
فظلوا هناك، ولم يبحروا.
   إنّ هذا الانسحاب التشكيلي إلى ما وراء الذات الباحثة، هو صمّام الأمان الذي يضخّ كلّ ما تحتاجهُ الذات المطمئنّة، من سلالات نصّيّة، تتربع في هيئتها شعلة الانكفاء إلى الداخل، بحيث تصبح هذه السلالات منطق الطير بالنسبة للشاعر، وهو في طريقه لتأسيس عالم توصيفي لزمنين مؤتلفين بالفرائد، ومختلفين بالموائد، نحو تأصيل شمس المعنى.
أرى في كتاب المرايا
حقيقة شمسي التي تسفرُ
أقلّبهُ موجة موجة كلّ يوم
كما تفعل الريح والأبحرُ
فيفجؤني أنّ هذي الحياة
تزخرف أسماءها والصفات
وتسكب غير الذي تعصرُ
   هكذا يستحثّ النصّ الشعري دلالتهُ العينيّة، عبر هذه الرؤى المؤتلفة، والمخالفة لنوع المادة )الزخرفة) التي يتكئ عليها الكلام، فهو وفي سياقهِ التأمّلي للذوات ومرجعياتها وأسمائها وصفاتها، يعي تماماً بأن النتيجة حتماً لصالح حقيقة المعنى وشمسهِ، ذلك أنهُ مقيم بالمطلق اللغوي، المحفوف باللاوعي، والمصاحب للفرائض الشعرية التي تشي بالطمأنينة والأمان، لأنه المستودع الأزلي للذات وتحوّلاتها.



إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x