ديوان حالات خاصة من دفتر العشق

 

صوت من الداخل

   يشكّل ديوان حالات خاصة من دفتر العشق، صورة متشعبة لحالات الإشارة التي تحدد مسارات وحقول اللغة ، من حيث هي عامل وحامل وراثي لكلّ ما يتمخّض عنه الصوت الشعري ، وفي إطار هذه التشعبات ، تتقدّم الفعاليات الجوانية لتشارك في عملية تثنية الدلالات ، وفي هذا الإطار أيضاً ، تتقدّم السيرة الشعرية الخاضعة لكافة مقتضيات التجربة ومستلزماتها في تحويل المتخيّل النصّي إلى متخيّل أثيري ، قابل للذوبان والتماهي
 
" في زجاج القمر
أرى صورة لملاك صغير
فأشرع نافذتي للمطر
واقرأ فاتحة الليل
أحمل أشرعتي وأطير
للملاك الذي
ضاء فيه القمر"(16)
 
  إن عتبة الإشارة هنا تبوح للمتخيّل أن يستند على هذه اللغة المائية التي تتقطّر في عملية الحفر على الدلالات ، إذ أنها تفتح كلّ طاقتها الميكانيكية ، من أجل الوصول إلى دلالات أكثر وضوحاً من تلك الدلالات الواقعية المتوارثة ، لهذا يسير المنتج الإشاري إلى توطين المقام " اللغة " في عدد لا محدود من العتبات
 
"وجهها قادم
في مساء الكروم
وفي حزم الضوء
في خفقات النجوم
وجهها قادم
في مرايا المطر
فانزفي يا غيوم
وانطفيء …
يا قمر "(17)
 
   ولكن هذا الانتقال بالفعل الإشاري عبر العتبات المتغيرة ، يحتاج إلى مرونة سردية ، من أجل الوصول إلى صدمة المتغيّر الشفاهي ، فيلجأ هذا الانتقال إلى إحداث حالات خاصة من التوتر النفسي والحدسي ، مصاحباً للحركة الداخلية التي توفّر للصوت فضاءً رحباً ، يبثّ في موجوداته ، ما يمكن له أن يمتح من المغايرة شكله القادم
 
" أنت معي
فاختاري أيّ فضاء
أيّ سماء
اختاري ما شئت
فكلّ الأمكنة الآن سواء
اختاري الغيمة والنسمة
اختاري الدمعة والبسمة
والزهر الطالع والنجمة
اختاري زمناً يقتلنا ومكان
اختاري كفناً يجمعنا
اثنان"(18)
 
   إذن هي عتبات الإشارة التي تحدد هذا المآل ، فالمقام الذي يتنوع في مجسّات النصّ ، يصاحبه بكلّ تأكيد الإصبع الذي يختار التربة ، تربة النصّ التي مهما تداعت عليها الفصول ، تبقى تربة حاضنة للدلالات المزمع إنتاجها ، وفق تلاحم المقام والإصبع
 
" يا مساء الورد
قالت
وأمالت
خصلة الشعر عن الوجه الجميل
قلت أهلاً
ألف أهلاً
ومددت اليد للخصر النحيل
قالت الدراق لم ينضج
ولكن
انتظر موسمه الآتي
وغابت
مثل شمس
في ضباب المستحيل"(19)
 
   وإذا كان هذا التلاحم ، وخاصة في الملامح الأولى للتجربة ، يبقى عرضة للبنية الاستفسارية ، فإن فعل الإشارة هو المسيطر على المجمل التفكيكي بين الذات الشاعرة وذات النصّ ، فهو من جهة يعرف كيف يعيد صلة التلاحم بين الذاتين ، ليس من باب اللغة فقط ، إنما من باب توعية الدلالات على استيعاب المنهج الذي تحدده الذات الوسطية ، فلكلّ مسمّاه وطريقه ، غير أنهما في النهاية ، لا بدّ أن يلتقيا على مُسمّى وسطي قادر على الارتقاء بالعتبات
 
" من هنا
أيها البحر نبدأ مشوارنا
ونشدّ الرحال إلى خضرة الأرض والسنديان
كوننا شاهدان
كلانا يرشّ على جرحه
ما تيسر من لعنات الزمان
كوننا متعبان
متعبان
متعبان "(20)
 
    إن مثل هذا الاقتراب من حدود التشظي لفعل الإشارة ، لا بدّ له في النهاية من تفريد اللغة على أن تقدّم نفسها طواعية للدلالات ، فاللغة في مثل هذا المقام الإشاري هي تابع لمجمل التصورات التي سيقوم عليها النصّ ، وليست متبوعة ، لذلك لا تمانع من تداخل المفردات في مرايا الكلام ، لأن المنتج الدلالي لا يحصر في جملة وأخرى ، ولا في متخيّل وواقع
 
" المدى جمرة
وجهها يتّقد
والصدى لحظة
بيننا تتئد
ليتها تبتعد
ليتنا لا نجد "(21)
 
   وإذا كان الشعر هو مستلزم الواقع للدخول في هيئة المتخيّل ، واقتفاء المتخيّل لأثر الواقع ، فإن الصوت هو الرابط الأثيري والحيوي بينهما ، فهما لا يحيدان عنه قيد أنملة ، لأن في هذا المنحى ، قيمة أساسية لا تخضع للشروط ولا للحدود ، فالنصّ هو بحدّ ذاته سيفٌ موجّه ضد القيد والتقيّد ، والذات هي مجلى تقطيري لكلّ الشروط ، وهما هنا يلتقيان رغم تداخل المؤثرات ، استناداً على الصوت الداخلي للإشارة
 
" رجعت يا حبيبتي من أخر الحدود
لا دفء إلا أنت
لا حبّ إلا أنت ، لا وجود
يا أول العنقود
وآخر العنقود
ها أنذا أعود
إليك يا وحيدتي أعود"(22)
 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x