ديوان الإبحار في الزمن الصعب


المقام والأصبع 


  ثمة تقطير بنيوي للمادة الشعرية يختال أمام الشاعر  لحظة الإمساك بالمفردات ، وهو تقطير ناتج عن انحياز الفعل الشفوي لبؤر التشيّع التي تحيط بالتجربة  ككيان مندغم بالماضوية التي تفرد كلّ أزقتها أمام الإشارة ، من هنا يسعى الشاعر إلى إقصاء ما ينتج عن هذا التقطير ، ولكنه إقصاء محاط بالنديّة اللغوية، التي تفرض حساباتها على مجمل الكيان الشعري ، وإذا كان هذا الإقصاء في حميّته الأولى يخدم النصّ كونه المُنتج الذاتي للفعالية الشفوية ، فإنه وعبر التحام المقام اللغوي بالإصبع الإشاري الدلالي ، يفضي إلى ما ستؤول إليه التجربة برمّتها .
   إنّ الإشارة الأولى التي تواجهنا في إمكانية اصطراع حرية الفعل الشفوي مع المتغيّر الشعري ، هي التركيز على أنوية الذات ، كمحرك رئيس لكلّ الحركات التي تضبط حدود مناخاتها ، وفق الشرط الإيقاعي المصاحب للبنية الشكلية ، التي ينتهجها الشاعر
 
" لا تقولي
ذهب الحبّ ، ومات الأوفياء
فأنا
والعشق ، جسران التقينا
وعبرنا باطن التاريخ
من أوسع باب
وعلى الباب كتبنا بالدماء
حبنا
أن تضعي رأسك في صدري
ونمضي طلقاء"(8)   
      إنّ مفهوم الإشارة الشعرية هنا يلمّح إلى الحدود الواسعة للتجربة ، وما ستؤول إليه ، حيث تبرز الذات الشاعرة ، ملاصقة تماماً لذات النصّ ، وهما وفق ما تحتاجه التجربة لا بدّ أن يكونا حالاً واحدة ، لها نفس الرؤى والاتساع ، ولكن ضمن خصوصية ابتدائية لكلّ منطلق تكويني ، قادرة على الإصغاء لحساسية الآخر
 
" يحاصرني وجهك المستطيل
فآوي إلى البحر
يصفعني الموج بالراحة الدامية
أسافر ، يتبعني وجهك المستبدّ
إلى ساحل الغابة الساجية
إلى حيث يبتديء العشق نهراً
ويغتسل الوجه ، فيه احتراقاً
على شاطىء الجرح
واللعنة الآتية"(9)  
  من متممات الفعل الإشاري الاستغناء عن الاستثناء  وهي قوة مصاحبة للحدّ من السيولة الذهنية ، إذ أنها لا تفي بالغرض المنتج عن تلك الحساسية الخاصة بالذات ، ولكنها تتحوصل في الوسط الشعري ، في الخلفية التي يحاول كلّ من الذات الشاعرة وذات النصّ إقامتها في حقل الدلالات
 
" تماديت في الحلم
أدمنت هذا التشرد
وأبحرتُ
أبحرتُ حتى الغروب
وأيقنتُ في آخر الأمر أني
لعينيك أعلن عشقي
فما زال وجهك يرصد وجهي
وما زال لونك
جزءاً من الوجع المتشجّر
فوق انحناءاتي الراعفة"(10)
   وتقوم الحساسية الذهنية بمقاومة الأثر النفسي ، لفتح الطريق أمام الذات الشاعرة بالانطلاق خلف محدودية الإشارة ، ولكن ذات النصّ تأبى الركون إلى المُعطى الأوّل ، فتبدأ بخلخلة الفعل البنيوي السائد والمصاحب للصور التي ترزح تحت هيمنة الواقع ، فتمضي قدماً باتجاه تحريك الفعالية الشفوية التي تستوعب كلّ مقوّمات الإشارة الدّالة على جزئيات النصّ المضمر ، فتلجأ اللغة إلى إبطاء حركة المسوّغات الذهنية ، لينتشر المقام النفسي على سعة الشكل والمضمون
 
" قلتُ في نفسي
أنا الآتي إلى وجه المدينة
أنا المدفون في شارعها الخلفي
في أورامها الحبلى
بأحزاني الرطيبة
أستعيد الآن وجهي
وانفعالاتي
وصوت الذل في مقبرة الصمت القريبة
وأنا الآتي إلى صدر الحبيبة"(11)
 
  وتبقى الفعالية الشفوية ناطقة ومكتوبة في آن واحد  تحت تأثير مجسّات النصّ الإشاري ، إذ أنها وفي ركونها إلى المُعطى الدلالي ، تنخلع من الذات الشاعرة ، لتتسامى ورقة المتخيل الشعري باحتضان صيرورة الإشارة الغيريّة ، وهي بهذا المنحى تحدد آليات جديدة لذات النص
 
" مرة أخرى
تقولين غريباً
فاسألوا من أين جاء؟
أو قريباً جامحاً
لا فرق بين القادمين
كان حراس المقاهي
يحملون الليل في أردانهم
ويسيرون إلى الوكر الأخير"(12)
 
  وعندما تنطلق آليات النصّ بالبحث عن صيغ ذات إشارات دلالية تحمل في مخاضها قوة حضور الواقع فإنها تتقاطع مع الخطاب الشكلي ، تقاطعاً ملموساً تتوافر فيه جملة الانحناءات الذهنية ، ليصير المعطى الشعري وقفاً على الحدود الإشارية فقط
 
" هذا دم
يمتد نحو المشنقة
هذي الوليمة
للذي أعطى الحبيبة زنبقة
هذي التحية
للتي نشرت
على الأغصان غربتها
فتوهجت
ما بين مطرقتين قاتلتين
ترسل عشقها النهري
في وجع الفصول"(13)
 
  وفي محاولة الخروج من الدائرة الذهنية ، تتصل صيغ الإشارة بالفضاء الشفوي الذي يتماشى مع البنية التوكيدية ، بحيث تصبح الصيغ صيغاً واقعية في مجمل إشاراتها
 
" هذا البكاء بداية
للطلق ، فانطلقي معي
هذا البكاء
يعيد للفرسان قامتهم
فتجاوزي
زمن الولائم
والتمائم
والسفر
كوني دماً
كوني فضاءً أو قمر
كوني انتشاراً ، أو زحاراً ، أو مطر
كوني ارتعاشتنا التي نأوي إليها
حين لا يبقى من الأصحاب غير الظلّ
حين لا يبقى ، لنا _ منا _  أثر "(14)
  
   هذه هي المرايا المرتجاة والمشتهاة من إبراز صيغ الإشارة ، التي تتشكّل وفق ما يقتضيه المآل الشفوي للنصّ ، إذ أنها سرعان ما تتكشف عن تلاحم الذاتين ، الذات الشاعرة وذات النصّ ، عبر خط مستقيم يقدّم الذات الشاعرة كذات متصلة مع النصّ عبر امتداده الزمني
 
   وتعتبر الحركة الإشارية في هذا المنحى ، حركة غير قابلة للانفصال ، عن اللغة كونها الحامل الوراثي
" أمي تقسم
إن كنتم تحترمون الحلف
بأني إبن شرعيّ لأبي
أنبتني في ليلة عشق معتادة
وسقى الزرع بماء الخلق
وذاب مع الخيط الأول"(15)   
 
     وفي إطار تداول الصيغ الإشارية التي يسعى الشاعر إلى إعمالها في جسد النصّ ، ينمو المقام المتمثل بالامتداد اللغوي عبر وسائل الاتصال " إبن شرعي لأبي " ، والذي يشكّل في بعده الاحترازي ذات النصّ ، والإصبع الذي يحدد مآل هذا الامتداد " وذاب مع الخيط الأول " والذي يشكّل في امتداده الجيني ، الذات الشاعرة المتصلة والمنفصلة في آن واحد , 

 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x