ديوان على أيّ حال أحبك

 

ورقة التوت الخفيّة


   تستدرج قصائد الشاعر محمد مقدادي في مجموعته الشعرية " على أيّ حالٍ أحبك" طاقة الأيقونات اللغوية للكشف عن سرائر الحال ومقام الاندفاع ، لتشكّل مقطعاً شعرياً يقوم على مفردات الهيمنة الجامعة للنصّ الشعري ، لتوصيل طاقة شعرية هائلة تبدأ من فضاء اللغة مروراً بتجسيد حالة من التواصل بين واقع الشعر كلوحة جمالية ناطقة وبين اجتراح أجوبة لأسئلة النصّ الخطابي.
 
  تتناوب قصائد المجموعة على قراءة ورقة التوت الخفيّة في النصّ ، في زمنٍ شكّلته الغيوب للقبض على جملة الانتشار والانحسار ، عبر محطات تشكيلية تمتزج فيها وشائج الكيمياء الشعرية الحية التي تختبرها إشارة النصّ ، في مجمل مداراته عبر رؤية تمتلك خصوصية مكوناتها  وقدرتها على كشف العوالم الخفيّة التي يحتفل بها النصّ الإشاري ، إلى جانب النسيج الخفي المعمد بمادة القول حين تضيق العبارة وتتسع الرؤيا.
 
  تشيد لغة مقدادي معماراً هندسياً يقوم على قياس الحالة النفسية التي تستدعي جوانيتها ، فالنصّ الشعري لا يقوم فقط على استدعاء اللغة كفعل منطوق بل يتعداه إلى البعد الميكانيكي الخاص بفعالية الإشارة ، والتي تتحرك عند أول شرارة تنطلق من الخطاب الشعري
 
" ليس حزناً عليك
سأبكي طويلاً
ولا فرحاً بالنجاة من الموت
أحمل قلبي على راحتي
وأمضي…
إلى هذه الآخرة "(71)
 
  وتعمل رؤية الإشارة على إدانة الواقع الراهن من خلال تفعيل دور الاستغناء عن الاستدراك الشعري الظني الذي لا ينسجم بدوره عن الفعالية الإشارية ،هذا الاستدراك الذي لا يعدو كونه جهة لغوية ناسخة لكثير من الحواس التي تفرض ذاتها على الشاعر ، وهو يصارع ضراوة اللغة ، فالاستغناء الذي يسعى الشاعر إلى تفعيله ، يؤدي إلى إعطاء كلّ نصّ شعري خاصية ما ، لا تتوافر في نصّ شعري سابق  لذلك تراهن اللغة على حيويتها الإشارية وحيادها لجهة مسرحة اللعبة النفسية الدلالية التي تمنطق المسميات .
 
الحدود مسيّجةٌ
بظلام ثقيل
وألف قتيل
على جانبيها
عيون تحدق في نفسها
وجند يحاصرهم بردها
وصقيع ملامحها الباهتة"(72)
 
   ولإكمال الدائرة الإشارية المنوط بها تفعيل خلفية اللغة ، تتراسل القوافي في النصوص ، عبر نظام كهرومغناطيسي يعتمد على إدراك المدلولات التي تتقابل مع الصوت الشعري الإشاري ، لهذا يلجأ الشاعر إلى تحفيز بؤرة التوتر الصوتي للقافية ، في حالتي الانتشار والانحسار ، من خلال تكثيف الجمل الإشارية واتساع المعنى ، وهو بذلك لا يعيد صياغة " كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة " فقط إنما يحيل العبارة إلى ملكوت إشاري واسع ، لتتسع العبارة لكلّ مفردات الرؤيا .
 
" لنيسان
أترابه الطيبون
وأترابه القابضون على الجمر
والراكضون إلى موتهم … كالفراش
وله جسد
ليس يعرفه أحد "(73)
 
  الشعر \ الحياة الضمير المستتر في الذات ، والشعر \ الوجود الضمير الغائب في الذات التي تحفل بغواية السطر الأول ، هما قطبا الحركة الشعرية التي يقودها الشاعر في غناها الإشاري ، لجهة اتصالها بالكائن من حيث هو مندغم في تكوناتها ، وليس شاهداً فقط .
 
" في اليوم الأول
قال تعلّمت الخط
في اليوم الثاني
دوّن أسماء شيوخ قبيلته
في اليوم الثالثِ
أسقط إسماً منصوباً
فانتصبت أدوات النصب "(74)
 
  وتحتاج البنية الإشارية في النصّ الشعري إلى تقنية إبطاء مسيرة التراكيب لجهة اتصالها بالرؤيا ،من حيث اتساع الفضاء الذي يدور في رحابه النصّ ، وتقابل عملية الإبطاء سعة التفاف العبارة حول إيقاعها الإشاري ، وهي ترقب جهات التأويل الذي يعتمد في تكونه وانبعاثه على المقطع الشعري الظاهري في بنيته ، والباطني في قدرته على السماح للمفردات باستغلال طاقتها الإشارية .
" غرباً أسيرُ
وشرقاً
وتحت المصابيح يمتدّ ظلي
وتمتدّ بي طرقي
وحقول دمي
والرعاة الذين يعودون متئدين
بُعيدَ حلول الظلام
ثم أشباح لا تلتقي
ثم عاصفة
لا تسير محاذية لشواطىء روحي
تسير إلى ظلمة البحر
هذا البعيد الذي … لا يجيء "(75)
 
   وتستمد النصوص قدرتها على الاستغناء عن الاستدراك الشعري الظني ، من جهة التناسخ الجيني الذي يقوم على فرد المقطع الشعري على مساحة النصّ الإشاري ، حيث يؤثث النصّ المقطعي إذا جاز التعبير بكافة أقانيمه الحية التي تتمثل بالنسيج القائم في علاقات الصور الإشارية التي تتوفر في النصّ المقطعي .
 
" ثم وجه
يفرّ كقبّرة خائفة
من طريقي
ثم ريح
تصارع ليلكة العمر كي
تكسر القلب من جذره
وتشيع الغناء
ثم دالية
تمنح النشوة الغامرة
وتلمّ شتاتي إلى حظنها
وتغيب "(76)
  
  ويتحول المقطع الشعري في النصوص إلى لاعب أساسي ، تقوم عليه البنى الإشارية ، عبر معالجة الأجنة في النصّ ، وحقنها بالصورة الجزئية ، لتنمو في مبتدأ قائم على التوليد الإشاري الذي يمزج النصّ ويبسطه على الأثر المحمول .
 
" كم كنت جميلاً
حين أتيت
وجميلاً أيضاً
حين مضيت
وجميلاً
أكثر
حين أخذت ذراعي
وبكيت
كم كنتَ
وكم
كان البيت "(77)


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x