ديوان طواف الجهات


تفريد الإشارة

 

   حين تتعدى حقول الإشارة ، الحراك الجوفي للنصّ، تدخل في مسالك متعددة ، تثير حولها ضجيج اللغة ، وصمت المشهد ، وعناق المفردات ، وحزن التفاصيل ، كلّ هذا يلتئم في زيت سراجها ، بعد أن تكون قد وفّرتْ له ما يليق به من شفافية ترى ما خلف لحمها من عروق الدم ، فتصبح أكثر جرأة للدخول في سيرة الصور وأحقيّتها بالاتكاء على الذات المتحركة .
 
  وأثناء عمل الذات على تفريد الإشارة ، وإعطائها مرونة المجسّات التي يستخدمها النصّ ، في إتمام الإيقاع البنائي ، تبرز مجالات جديدة في التجربة ، أهمها البعد التجسيمي للمفردات ، لتأخذ صفة الكائن الحيّ ، الذي يتماهى مع أبعاده المختلفة ، عبر مشروعية انعكاس المرايا
 
   " ديوان طواف الجهات " يمثل هذه الحالات مجتمعة ، إذ أنه لا يترك للواقع جداراً ، إلا وشقّه ، لجهة اتصاله بالرؤيا ، فقصائد الديوان هي رحلة جارفة في عالم انتشار الإشارة ، من حيث توريطها بالحقل الدلالي الانزياحي
 
" مريض بدالية لا تجيد عناق الحرير
ولا تتغلغل في الصدر كالأبخرة
مريض بأعنابها الكافرة
بعينين أكثر فتكاً من الرمح في القلب
والخاصرة
مريض بها
وأصرّ على خوض هذي البحار
لأعرف أين هي الآخرة"(62)
  
   وإذا كان هذا الانحباس الانزياحي ، الذي ظلّ طريح التشيّع الإشاري لحالة الصراع الذي وفّرته ميكانيكية التجربة ، قد وجد ضآلته في جملة المؤثّرات الخارجية لهذه التجربة ، فإنه لن يستثمر هذه الحالة للتمدد ، لكي لا يكون ناسخاً ، بل سيعمد على برمجة الانزياحات وفق مشروعه الرؤيوي
 
" هي ذي امرأة
نصفها تعبٌ
وثلاثة أرباعها فاكهة
هي ذي امرأة
نصفها البحر
والغيم نصف يغلّفني
بعبير أصابعه الباحثات
على جسدي
عن هدوء جميل
بصهيل سنابلها الظامئات
إلى شفةٍ
ورحيل "(63)
 
   كما أن حالة التمدد ستوفر له قوة ضاغطة ، باتجاه تأثيث النصّ بأوعية ذات فعالية مؤجّلة ، ربما تحتاجها الإشارة لتأصيل ما هو متغيّر
 
" قيل :
مات الذي كان يعشق وردتها
قبل عام
قلت :
يكفي
إذا صفّقت أن يعود
ويهدي لها
أنجماً
من رخام"(64)
 
  إن مفهوم البعد الانزياحي الذي تلجأ إليه المتغيرات الدلالية قبل الذهاب إلى الحسّ الإنتقالي للصور ، يحتاج إلى توطين الثوابت اللغوية  ، عبر ترسيم المناطق الجغرافية على جسد النصّ ، من أجل تفريد الإشارة ، التي تكون بدورها قد أفرغت جُلّ طاقتها الذهنية
 
" أقول كلاماً كثيراً
عن الحبّ
لو أستطيع الذهاب
إلى آخر الأرض
حبواً على ركبتي
لأوصل قلبي لذاك الشفق
لكنت عدوت
من المهد طفلاً وكنت سكبت
على معصميك أنين الورق"(65)
 
  ومع هذا يبقى الفعل الإشاري قابضاً على جمرة التدخل ، إذا أخذت اللغة زخرفها ، لأن النصّ الشعري مهما طرأت عليه حواف التحوّلات ، يبقى نصّاً قابلاً لخضوع بنيته لفعالية الإشارة ، وهو وإن كان أسند مهمة التحوّلات الشعرية ، لعصبة الانزياحات ، فإنه يبقى المنتج الوحيد والدّال على جغرافية النصّ
 
" كأني أمرّ على الأرض
قلبي يحدّثني أن أمرّ على جثتي
وأعانق تلك الخطايا التي
قفزت فجأة
واعتلت جبهتي"(66)
 
  إن هذا التحوّل المشروع الذي يقوم به الحقل الإشاري ، وفق ما يعتمل النصّ من تكهنات أثيرية ، محصور بين قوسين ، اللذة الشعرية التي يستردها الانزياح من اللغة ، والمصاهرة التي توفّرها الذات،  إذ أنه لا يهادن شيئاً ، فكلّ ما لديه قابل للمكاشفة ، ولو كانت الذات أو النصّ
 
" كان يوماً
فقيراً بأحلامه
بأعنابه
بأجراس أهدابك الراقصات
على روح شمعتي الساهرة"(67)
     
  لكأن الإشارة تعي تماماً خصوصية اللغة ، أمام هذا المعترك الذهني الذي تخوضه اللغة ، وهي في طريقها للنفخ في جسد النصّ ، لهذا يأتي بوح الإشارة بإطلاق الحراك الجوفي ، لجهة الوقوف على ما في اللغة من مترادفات ،
 
" لغتي بكر فلا تغتصبيها
وخيولي لم تتب يوماً عن الركض
فلا تعتقليها
وفضاءاتي سهول
يتمشى النجم فيها
وطيوري لم تكن خاضعة يوماً
لشرطي ، فلا تستجوبيها "(68)
 
 
   هنا وبعد الكشف أو مصاحبة مفردات اللغة ، تكشف الإشارة عن لغتها الخاصة ، تلك اللغة التي لا تخضع إلا لشروط العميلة الشعرية ، ولو كان هذا الأمر سيدخلها في صراع دائم مع الذات الشاعرة ، أو مع النصّ كونه الحاضن الأول للمترادفات التي يناط بها الانزياح
" أنجزت ما تعد
هي ذي امرأة
حين أمضي إليها
تطير من الفرح المتقد
وحين تضيع دروبي إليها
أمدّ يديّ
لعلي أجد
ولكنه
ليس إلا الجدار
ومحراب
من لم تزل تبتعد"(69)
 
  وفي واقعة الصراع الداخلي في القصيدة الشعرية ، تتقدم اللغة ، لتبوح بأسرارها كلّها أمام النصّ والذات معاً ، بأن الحقل الدلالي لا يقوم إلا بأوعية الإشارة ، وأن هذا الإسناد الفضائي الغامض ، هو تجليات الفعل الإشاري ، الذي يلتقط من عالمه الأثيري ، ما يمكن أن يكون نصّا حيّاً
 
" يكفيني من هذا العالم
أنك فيه
يكفيني
أنك لغتي ، ذاكرتي
ما كان وما يمكن أن أعنيه
أنك أول سنبلة في الحقل
وأول سوسنةٍ
علّمت النبع أغانيه"(70)
 
   إذن بعد هذا الاعتراف ، تتجلى البنية الإشارية ، التي تختصر كلّ كيمياء الشعر في شرارتها الأولى ، ومن هنا يمكن أن نستقصي معنى هاماً ودالاً على أن الإشارة في كينونتها الأولى ، تعني شرارة النصّ وإشعاعاتها 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x