ديوان أحلام القنديل الأزرق


الجذر الإشاري

 

   في المسار النموذجي لبناء التجربة الشعرية ، وفق ما يعتريها من تذبذب واقتراف للمجهول ، وانبهار بالمدخلات اللغوية الخاصة والبكر ، فإن المعمار الفني لأيّ منتج أدبي ، لا بدّ له من محاورة الجذر الوضعي للمفردات ، التي يقوم عليها البناء ، تحديداً من زاوية التوافق والتغاير ، وربما لا تتأتّى هذه المحاورة ، إلا بعد خضوع التجربة الشعرية لكثير من مرايا التحوّل الذاتي ، بين الذات كمُنتَج ، والذات كمُنتِج ، ليتوافر للنصّ الأدبي جملة من المقوّمات اللمسية ، التي تسند النصّ


  وإذا كان مفهوم الإشارة بخطّه العريض ، هو التباين والقفز عبر مسميات الجمل اللغوية ، وحثّها على تقديم صورها الداخلية ، فإن جذر الإشارة يعمل على إبقاء حالة من التمايز الذي تفرضه هموم التجربة ، وانتشالها من ثياب القشرة اللغوية ، وإدخالها في أتون التمازج بين ما هو متخيّل وما هو واقع


  من هذه الدائرة يتقدّم ديوان "أحلام القنديل الأزرق "   

منتجاً بؤراً لانتشار الخطوط العريضة لجذر الإشارة الذي يتماهى مع الفضاء التصويري كونه المرشد الروحي للنصّ الفراغي الذي يبحث عن مركزه الزماني ، بعد أن تتغلغل خطواته في التجربة كسياق إنتاجي لرؤى قادمة

   وتظهر أولى مجريات الجذر في اختراق حالات الوهم اللغوي ، سعياً وراء تفريغ الطاقة من حمولتها الزائدة ، وتفريعها عبر مسالك تؤدّي إلى جمرة التناغم الصوري الخاصة بالنصّ


" في المسافة الفاصلة

بين الرمشين ، وإغماضة عين

في لحظة انتظار نبضة في القلب

وحزمة ضوء على أبواب الشمس

في معادلة الوجع

وفي كل الأشياء التي تذبح

على عتبات الزمن الآتي

يتموضع حلمك"(23)

   إن هذا التموضع الإشاري هو سلّة البحث عن الجذر الذي يوفر قوة اندفاعية جديدة لكلّ الحالات الطاردة في النصّ ، حيث يسلك هذا التوجه دوائر أكثر انغلاقاً ، بحثاً عن عشب أخضر تنمو عليه ثمار الصور ،


" في شارع ممتليء

بالتفاتات البنات الجميلات

مشبع بأريج صاعد

من ضفائرهن المسرحة بإتقان

 ومزدان بعقود الياسمين

الملتفة على أعناقهن

المنسابة فوق خارطة الصدر

والمسترخية كالنوارس المتعبة

على شاطيء القلب الذي يفرغ شحناته

في آنية الليل ، على الأسرة الخالية"(24)

    يبدأ الجذر الإشاري بتقديم مدخلاته عبر وسائل الاتصال بالملموس ، متخذاً من المقام قوة إضافية ، للدخول إلى تحميل المفردات صيغ غير اعتيادية ، صيغ قابلة للتطوّر والمجابهة ، تطوّر الذات كمنتِج ، ومجابهة الذات كمنتَج ، إلا أنه مع هذا يبقي مساحة وسطية تشمل كلا الحالتين ، ليبقى النصّ قادراً على تحصين نفسه ، من فوضى الإنزياح


" الأزقة

شرايين تتقاطع ، تتوازى

وتلتف في عناق طارىء ، وحميم

ثم ينفلت كلّ منها في اتجاه

لكنها جميعاً توصل إلى موقع السرّة

في جسد المدينة المخدّرة"(25)

   مع هذا يبقى الجذر حذراً من الاقتراب إلى بؤر تشيّع المفردات ، مستسلماً إلى الصوت ، ومراقباً للحراك الجوفي الذي تثيره قلقلة اللغة ، وانبهارها بالمدخلات الجديدة التي يمارس تحصينها الجذر ، بعد كلّ إشارة

" وطئت قدماك الأرض الصحراوية

فابتلت أردان قميصك

بسرلب الضوضاء

والعشب المالح

والأفق الوردي الحافي"(26) 

    وفي محاولة لتقليص بؤر التوتر ، ينهض الجذر باللغة ، يتماشى مع صيرورتها ، ثم يبدأ بعد ليّ المترادفات ، بمحاصرة التثنية اللغوية ، لجهة إفرادها في مقام واحد ، يتعدى حدود العتبات


" الليل الذي جاء ، وهذه الليلة

لم يحمل في جوفه الحلم الذي انتظر

والنوافذ مكتحلة بالهمّ

والصمت ، والتوتر

وأنا محزون

ومستهلك حتى النخاع "(27)

  هي إذن شحنة أخرى من شحنات التفريغ والتفريع التي ينهض به الجذر ، الإحساس بالمستوى الفني للإشارة ، ومدى قدرتها على توجيه بنية النصّ الشعري ، وملازمتها للمتغيرات ، والإبقاء عليها ضمن حدود الذاكرة الشعرية التي تتوج النصّ بالرؤى

" جميلة

هي الكلمات التي لم نقلها

ولكنها أكثر جمالاً

تلك التي لا تملك متسعاً

لاستيعاب ما أردنا أن نقوله

ذات ليلة ، خريفية صاخبة"(28)


   إن الإطار الأوسع للجذر هو الإبقاء على الحراك الجوفي للمفردات ، لتمكين النصّ من إيجاد فرصة أخرى للقول ، دون المساس بالكلام العابر ، وفق معطيات الأنا الشاعرة الطاردة لكلّ ما من شأنه أن يعيق حركتها داخل وخارج النصّ


" كلّ انفصال

يكون حاداً ومؤلماً

 وكل اندماج يضيف إلى الكون بعداً جديداً

وفرحاً ، وعيداً ، وابتسامات خجولة"(29)

   لهذا تمحور الصور حول عملية آليات الجذر الإشاري ، كونه اللاقط الوحيد لمفرزاتها المادية المتمثلة بالحراك الجوفي للمفردات ، والمعنوية المتمثلة بقدرتها على الولوج إلى الأبعاد الخفية والمستترة في قميص اللغة


" ها أنذا _ والقنديل في الشرفة _

صامت ووحيد

انتظر الكلمات ، فلا يأتين

هؤلاء العاشقات الجميلات

يتسللن في بطء

وبغير اكتراث

إلى أسرة أخرى ، ويتركنني

أنوء ، بعبء وحدانيتي

وشرودي "(30)

    وهنا بعد هذا التمحور ، يبدأ الجذر الإشاري بالالتفات إلى المفردات ، ومعاينتها ، والاستماع إلى قوة حجتها ، فيمضي قدماً إلى تفريغ الشحنات وتفريعها ، قبل أن يتجه إلى النصّ الدلالي المحمول على الأبعاد الخفية للحراك الجوفي

" لم تتهيأ لي فرصة واحدة

لأكون حصاة في هذا العقد الهائل

من الأجساد المليسة"(31)

    ومن المؤمّل بعد هذا الانتشار للجذر الإشاري في منادمة النصّ ، أن يتجه لذاته ، في محاولة للاطمئنان

على سير المعادل النفسي ، ولكن سرعان ما تتسع دائرة النصّ ، ليجد الجذر نفسه أمام دوائر مغلقة لم تنكشف بعد أمام البعد الإشاري الخاضع للمفردات ، لهذا يبدأ في تشكيل حاضنة خاصة تحدّها اللغة ولا تسيّرها ، ويبدأ في اقتناص وتعرية الصور غير المأهولة بالحراك الجوفي ، ملتصقاً بجمرة المتغيّر الشعري الذي يطرأ على الصور ، دون الالتفات إلى الذات لا كمنتَج أو منتِج ، لأنه بذلك يتيح لنفسه قدرة الرصد التي يتشبث بها كونه الناطق باسم الذات

" كم اشتقت لمعرفة الأشياء النائية

أسمائها ،

نكهتها ،

خشخشة جريدها

ولغة التواصل فيها"(32) 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x