ديوان أحد أحد

 

صدمة المواجهة

 

   إن المواجهة ، أو صدمة المواجهة بين التفاصيل والمفردات ، تعتبر في الحقل الإشاري ، ثيمة معنوية تحددها المجالات المختلفة في الفعل الكتابي ، إذ أن انسحاب الحقل الإشاري من مقامه الأثيري والفاعل في ضبط المنحى التصويري ، لا يعتبر انسحاباً كليّاً لأنه في الإطار الجوفي للنصّ ، يعمل على مناخ جديد ، ربما لا تستطيع التفاصيل الولوج إلى عتباته

 

    وتستمر التجربة الشعرية في حقولها المتعددة بالبحث عن النظم الجوفية التي تغذي النصّ ، من هنا يأتي إسقاط العنوانات الفرعية ، بعد عمليات التفريغ والتفريع المصاحبة للحقل الإشاري ، حيث نجد الفعالية الكتابية في ديوان " أحد .. أحد " تعتمد اعتماداً كليّاً على الحقل الإشاري ، من حيث هو لاقط لكلّ محاور التفاصيل ، إذ تصبح التفاصيل كياناً موحداً قادراً على ضبط النسق اللغوي المصاحب للمفردات

 

  كما أن التفاصيل في عملية المواجهة ، تشتغل أيضاً على ضبط المنحى التصويري المسنود بالفعالية الإشارية ، وعلى هذا تبدأ الإشارة بالدفاع عن كينونتها ، من خلال إدخال إيقاع زمني متحرك ، يخدم الإطار الجوفي للنصّ

 

" هذا أنا

قلب يبوح ولا أبوح

وجع تطاول

فاستقرّ به الطواف على أديمك

راح يرقص رقصة الموتى

لآخر نبضة ،ويشيع في صمتٍ بكاه الموسميّ"(54) 

 

   ولأنّ طواف الإشارة منوط بديمومة الذات الشاعرة ، فإنه لا يكفّ البحث عن تفاصيل جديدة ، تكون قوة دافعة إضافية للحوار الذي يدور بين المفردات ، وهي تضارع التفاصيل

 

" ما بين نهدين استحقا

رقصة دموية

وضفائر

سكبتْ على حمم الوسائد

متعة الأنثى التي تشتاق

أن يأتي الفرج

ويقرّ صاحبنا

بأن الصبر مفتاح الفرج "(55)

  وفي جملة الطوافات التي يسعى الحقل الإشاري إضافتها ، تخترق الفعالية الكتابية حجرة الزمن ، لتشدّ أصرها بما هو مُنتَج ، أو قابل لتعبئة الفراغات التي تنتج عن الصدام بين المفردات والتفاصيل

 

" أخرج

وكن زمناً يسافر باتجاه واحد

حتى يفرّ الليل مندهشاً

ويكتمل النشيد

هذي بواديك التي ضاقت

على أعناق قتلاها

هذا عواء سافر

واللوز يرسل في تراب الريح

فرعاً ميتاً

فيصرّ سمسار ، تنقّل بين عاصمتين

أن الأمر محتدم

وفرصتنا الأخيرة ،

أن نزاوج بين أطراف النزاع

والصبر مفتاح الفرج"(56)

 

  إذن هو مقام احترازي ما تقوم به البنية النصية في حالات الصراع الذي يتعاظم بين الحقول الأثيرية ، من إحلال الوئام بين المفردات والتفاصيل ، حتى يتسيّد المنحى التصويري كافة أشكال البؤر النصية ، بعد أن تكون الإشارة قد تكثّفت وكشفت مقامات الذات الشاعرة

 

" لقمان

أفرغ ما لديك من التوتّر

وانتزع قدحاً ، تعتّق ماؤه

في أغنيات الذاهبين إلى المطر

دارت عليك دوائر النظم الرديئة

فاستقم ما اسطعت

وابحث عن هويتك القديمة"(57)

   ومن أعمال الإشارة في المستطيل النصي ، إلى جانب الفعل الاحترازي ، أن تقدّم نفسها في إطار المزاوجة بين المفردات والتفاصيل ، كراسم تنويري لكلّ محطات النصّ ، بدءاً من الاختيار اللغوي ، وانتهاءً بتقديم المجسّات التي تفضي إلى إعمال الحراك الجوفي ، إن كان للنصّ ، أو للذات الشاعرة

 

" يا أيها الشعراء

في " الغور " موعدنا

والغور بوابّهْ

تحلو به اللقيا

ويعزّ أحبابهْ

إن ضاقت الدنيا

سندقّ أبوابهْ

وبصدره نغفو

ونردّ ما نابهْ "(58)

 

   لكأنّ فعل الإشارة كلما تقدّم من مرونة مواجهة الحراك اللغوي ، ينفذ إلى المسكوت عنه ، وهذا هو فوتغراف المنبع الذي يتمحور حوله الشاعر ، لذلك تبدأ العبارات بالالتصاق بأبنيتها الطازجة ، تحديداً بتلك الأبنية التي تشيع هكذا شعثاء وارفة  ، وأمام هذا التمحور تتسع جوانية القول المطلق

 

" اخترق الصمت جدار الصوت

اختبأ العشّاق بظلّ النهر

احتبست أنفاس نواطير القمر الفضيّ

احتقنت أعينهم بالجمر الضارب للصفرة

حين رأوا حملاناً تتقافز ، 

لا تعرف

أن المسلخ آخر منتجعات الكون"(59)

 

   وتتصل جوانية القول المطلق ، بالفعل الإشاري ، بعد أن يكون قد رتّب أولويّاته ، من حيث الاتصال بالزمن المتحرك ، والقابل للمشاهدة ، والركون إلى عنونة البوح المتصل بالحقل الدلالي

 

" هذا الجزّار تمادى في السّلخ

وجاء أخيراً

من ينبأه أن خرافاً

قد غادرت الحقل

فعاود _ بالكاد _ تثاؤبهُ

مفتتحاً بالذبح طقوساً

كان قد اختتم الحفل بها"(60)

 

   هذا التوقيت يجعل من الفعل الإشاري طارداً لكلّ ما من شأنه أن يعيق حالة التلازم والتوافق الشعري، مما يمنح المنحى التصويري طاقته الكلية ، للدخول في الكيمياء الناتجة عن هذا التواؤم

 

" وتخرج في صحبة الحقل

مزهوّة كالعرائس ،تخلع صفرتها اليانعة

وتنقش في لوحة الأفق أحلامها

للمساء المشاغب

والصاعدين إلى سلّم الموت

وهي الظلال التي تحتويني

إذا صادروا القمح ، أو شربوا أدمعه

وهذا دمي جدول يتدفق _ شيئاً ، فشيئاً _

بكلّ اتجاه

وينحلّ في صحف الفجر حين يصلّي

وينساب فوق موائدك الجامعة"(61)

 

  وحين تعود الإشارة إلى منتهى ما تريد من الحقل الدلالي ، يكون الفعل التنويري قد أخذ مجراه في أوعية التلازم والتوافق بين المسمّيات والمُعطيات والنتائج ، لأن النصّ في حراكه الجوفي لا يكون إلا واحداً ، مهما تعددت العتبات ، أصول الذات ، وفروع النصّ


إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x