ديوان حقول الليلك

 

عتبات النصّ


التلازم والتوافق الشعري

 

      لكلّ نصّ مجاله الأثيري الذي يراوغ فيه ، وهو بالتأكيد ليس مجالاً قابلاً للانحناء ، ولكنه قابل للتمدد، وقابل للتفشّي في مجالات متعددة ، غير محصور بالإناء التفريعي الذي يملؤه الجذر الإشاري بالحراك الجوفي، بل ربما يسوق درجة الذبذبة إلى المحيط البعيد عن حدود مملكته وسلطانه ، من أجل تسخين الفراغات التي ينتج عنها فعاليته الحيّة المؤشرة على مواطن الجمال
    وكما أن هذا المجال قابل للتمدد ، فإنه قابل للانحسار ، وفق مقتضيات الإبر المغناطيسية التي تلتقط كلّ شاردة وواردة في دائرة المجال
 
  ديوان " حقول الليلك " يعتني بوضوح في مسألة التلازم والتوافق الشعري ، عبر آليات المغنطة ، وجرّها من نطاق التصوّر ، إلى نطاق الخلق الأدبي
 
    يبدو التلازم الشعري في حدود ما تسمح به الإشارة ، وقفاً على عودة الأثر الفردي إلى منبع التأصيل ، تأصيل المنحى الجمالي ، الذي ترتبط به الذات المنتِجة ، لجهة اتصاله بالأنا المرابطة خلف مفتتحات اللغة ،
 
" عدت لك
أيها الشعر
يا أيها الفرحة البكر
والطلعة البدر
والهمسة السحر
والقهوة الساخنة
يا جدائل
مسكونة بالهيام
ويا صدر حطّ عليه اليمام
ويا رعشة الصحبة الفاتنة"(33)
    
   وفيما يرعى التوافق الشعري المنجز الكلامي منذ لحظة التحوّل الأثيري ، واختزالها بالبنية الفنية ، وانتهاءً بالإشباع المعرفي الذي يقطن النصّ
 
" لها لغة البحر ، والملح
منذ " الحديْدة "
حتى سواحل " إبْين "
والخطوات على شاطىء
شاغلته الزرافات عن رمله
ونوارسه وحصاه
بانتظار التي عمّدتها المياه
فاكتسى بهجةً
حين مرّ المحبون كي يستريحوا
وفروا إلى عسل الخلوة الساخنة"(34)
 
   وما بين التلازم والتوافق الشعري ، ينهض المستوى الدلالي الجوفي
 
" هاتف وامرأة
ويد
من خلال الزجاج تلوح
تخدّرني
وهي فوق السطوح
وتُبقي على شفتي ظامئة"(35)
 
   ثم ينتج عن هذه البنية ، بنية كلامية قابلة للإشارة أو لاحتواء الجذر الإشاري
 
" ها أنا
خارج من دمي للصلاة
متعب
كحصان توغّل حتى مداه
والحقول التي في يديك تقول
تعال
فقد ألفتك الحقول"(36)
 
   كما تفعل الذات الشاعرة طردها للمؤثرات الساكنة، وتتقدم باتجاه محورت النصّ الشعري حول ذاته ، مصطحبة معها ، أو في معيتها ، جملة من العلاقات التي تضبط الإيقاع الداخلي للدلالة ، حيث تبرز أهمية الوعي الإشاري ، وقدرته على الحراك في فضاء ضيق
" صدرك غابة ضوء
وأنا قنديل في تلك الغابة
أمتهن العشق لغير رجاء
صدرك بحر
وأنا أبحث في عمق البحر طويلاً
عن قطرة ماء "(37)
 
   إن مثل هذه العملية التلازمية والتوافقية في إنشاء ما يبدو ضميراً غائباً ومستتراً عن النصّ الإشاري ، تبدو أكثر ضماناً للفعل الشفوي ، وهو يتوحد في حركة المقام والإصبع ، من هنا يتابع النصّ قراءة ذاته ، موغلاً بالتفاصيل ، ومرتّباً لجدواها وأهميتها في المجرى الكلامي ، قبل البدء في الشروع بتحريك الجوهر ، جوهر المعنى
" قهوة ساخنة
وعصفورة حول قلبي ، ترفّ
ونصف التفاتتها يتهادى على لوحة
أُلصقت في الجدار
مقعد دائريّ ، وصدر فتيّ
تقارب تفاحه واستدار
وحين مددت إليه يديّا
تباعد شيئاً فشيئاً فشيّا
وأكمل دورته ، ثم طار"(38)
 
    وإذا كان لا بدّ من الحقل الدلالي للمعرفة ،  مقابل الحقل الإشاري ، فإن النصّ بتركيبه الخام ، وقبل الولوج في بحر محاراته ، يستتر تحت هيمنة الذات الشاعرة ، وتقلباتها ، وانحيازها للشفوية العارمة التي تحجب أحياناً المعنويّة الدلالية
 
" هكذا أشرب البحر
أعني
أسير على ضفتيه
أشعر أني أثير لديه
ولكنني
حين أمضي إليه
يوسّدني _ حانياً_ ساعديه"(39)
 
    ورغم أن الصورة الكليّة لعتبات النصّ ، مرهونة بفاعلية التلازم والتوافق ، إلا أنها تشترط على هذا الارتهان أن يكون واعياً لأهمية العتبات ، ودورها في الحقل الدلالي ، وقوتها الدافعة في المجال الأثيري لذلك كثيراً ما يتحمّل العنوان تبعية العنوانات الفرعية ومصادرها
 
" لكم رجوت أن تواصلي الصعود في دمي
وأن تمزقي
تذاكر السفر
وتفرغي حقائب السفر
وتلعني المودّعين كلّهم
وتغلقي
نوافذ المدى
بالصوت والصدى
وترحلي معي
لغابة القمر"(40)
 
   وإذا كانت هذه التبعية مرضية في بداية الحراك الجوفي للدلالات ، إلا أنها في الصدمة الأخيرة لواقع النصّ ، كونه منتَج متخيل ، غير قابل للوقوع في فخّ الواقع ، لهذا يطلب الحقل الإشاري من المفردات أن لا تركن للحيز الضيق ، وأن تسعى إلى رواية البعد المخفي في النصّ
 
" لأنني
صديق هذه الشوارع الفسيحة
أحتاج يا أرصفتي
لجمرة
وغيمة
وسلّمٍ
يوصلني إلى السماء
أحتاج
ما يحتاجه " البلبل " من فضاء
أحتاج
زورقاً مسافراً
وماء "(41)
 
 

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x