ديوان ذاكرة النهر

 

الإشارة وفاعلية الكتابة

 

  إن منتج الإشارة في البعد الكتابي ، أكثر انفتاحاً على هيئة الشكل ، وفاعليته ، خاصة عندما يرقى النصّ الكتابي فوق المحمول الشفوي ، الذي يعتبر أوّل درجات التوافق بين ما هو بصري وما هو مقروء ، لهذا غالباً ما يلجأ الشاعر إلى ما يمكن تسميته بالوسطية الكتابية ، المحمولة على جناح اللغة وإشاراتها
   "ذاكرة النهر" مواجهة مفتوحة على حقيقة الأشياء المعلقة تحت الشمس ، وعبور إلى عالم الفصول العارية بغير مقدمات وأهازيج
 
   كما لو أن هذه الذاكرة تشرح كينونة الذات الشاعرة ، وتحركها نحو الموائد البكر ، التي يختصّ بها العالم المتغيّر والملاصق للحراك الجوفي
 
  عبر الكثير من المتاح القولي يمكن البحث عن فضاء الإشارة ، وتأثيثه بالمسميات والمعطيات التي لا تستند إلا على غيرتها على النتائج ، لأن فيه من السيرة السردية ما يمكن أن يحرّك عالماً بأكمله ، تحت تأثير التناسخ الجيني الذي لا يغفل عن الفيروسات التي تصيب بالحمّى
 
" كنت طفلاً ،
قبل أن تمرّ كرة يركلها المارة ،
ذوو الأصابع المنتفخة ،
وقبل أن تهشم إحداها ، آنية الفخار التي
عجنت طينتها بيديّ الضئيلتين ،
شكلتها من قبل ، على هيئة الطير ،
كسوتها ريشاً ، ونفخت فيها من روحي ،
ثم أرسلتها في فضائي كي ،
تنشىء عالماً غير هذا "(42)
 
   إن القوّة الكامنة في تحريك الفعل الإشاري هنا تكمن في سيمياء المرحلة والتجربة ، غير عابئة بالهيئة ، فجلّ ما يقوم به الفعل الإشاري ، هو توريط الذات وإلزامها بالدخول إلى عمق ما تكتنزه الذاكرة من فضاءات غير قابلة للتحييد
 
" يا أبتي
أنا يتيمك الأزلي
الروافد تحنّ إلى النهر
فأين أنت
يا نهري الجامح العظيم"(43)
 
  وفي خضم التنقيب عن المنجز الإشاري الماضوي، تتداخل الذات الشاعرة مع ذات النصّ ، لتشكّل في حراكها قوة دافعة للمفردات التي يسعى الحقل الإشاري لالتقاطها
 
" يا أبي
عندما اشتعل رأسي شيباً ،
وأنا على أبواب "الثلاثين" قلت لي :
يا بنيّ تلك هي منابت الشعر
قلت لك: إنها الحكمة المبكرة يا أبي
قلت لي :
بل هي أفراس الشعر التي تقودك
إلى شيخوخة الحكمة"(44)   
 
  ويمضي الإسناد الإشاري إلى الكشف عن فعالية الكتابة ، ضمن مواصفات حوارية ربما بمقدورها أن تعلن عن الذات في قوتها وضعفها
 
" يا أبتي ، ها أنذا أخطو
فأصعد إلى الهاوية
وأتعثر
فأسقط في الهاوية أيضاً
إنني أحقق انتصاراً دموياً على خطواتي"(45)
 
  ومع هذه الصيغة التوافقية التي تحفرها الذات الشاعرة في الحقل الإشاري ، يبرز جوهر المعنى من الزجاج الدلالي القابل للانتشار والانحسار
 
" يا بني
كل إبداع يمثل ولادة جديدة ،
المبدعون لا يشيخون ما داموا قادرين على
مواصلة الحياة في مواجهة الفناء ،
حين تذبل شجيرات الإبداع
يتلاشى المبدع ويموت ،
وحين يتوقف الشاعر
عن التناسل بالانشطار والتشظي ،
يجدر به أن يرحل ،
لأنه يكون قد رحل حقاً ،
ولم يبق لديه ما يقوله"(46)
 
    تحتضن فعالية الكتابة جملة المتغيرات التي تطرأ على ذات النصّ ، من حيث هو مزيج من الشفوية الكلامية العابرة حدود الجوهر ، ولكنها لا تفصح عن ذاتها إلا إذا اتصلت بالفعل الإشاري
 
" علمتني السهول كيف أحبو ،
وعلمتني الحقول كيف أمشي
على الأشواك والحصى ،
أما الجبال ، فقد علمتني ،
كيف أتقافز على صخورها ، والذرى،
كيف أطير ،
وأحلق قريباً من طفولة الأشياء"(47)
 
  ألم يكن هذا التوهج الممزوج بالرغبة والطيران ، هو فعل إشاري لصيرورة المبدأ ، والنسيج على منواله ، بعيداً عن محاجر الرماد التي تطفىء العيون، ألم يكن هذا الانفتاح على تربة الكائن مؤشراً جلياً على النهوض بفعالية النصّ كونه الناطق الحقيقي باسم فعالية الكتابة ، والقريب من الذات الشاعرة ، ألم يكن هذا مفتاحاً للتوجه للحراك المثمر
 
" يا أبتي
في الشعر
أجد لكلّ سؤال جواباً
وفي كلّ جواب للشعر
أجد سؤالاً جديداً
عجباً يا أبي
من ذا سيجيب على أسئلة الشعر
ومن ذا الذي سيوقف سيل تدفقها"(48)
 
  إن هذا التدفق الإشاري الذي يقود الفعالية الكتابية إلى استدراج الأسئلة ، لهو قادر على الإجابة ، ولكن في إطار المحمول المعرفي الذي ينتجه العقل ، أو يُسقى به من عالم أكثر تحصناً من الواقع المعاش
 
" كلّ الأسئلة
تستحيل إلى أعمدة من الملح والظمأ ،
أطوف بها
مرتدياً عباءات من الدمع والانكسار
لغة ميتة ،
ومفردات كفيفة كالمحار المفرغ ،
رماد هائل يملأ حلقي وتخومي ،
وما زلت أيها القلب تحلم بالأيام التي لم تجيء بعد ، بالأطفال القادمين إلى حدائق العمر وحلواه ،
كي يبدأ العمر ،
ولو في لحظاته الأخيرة "(49)   
 
   إن هذا الشعور بالانفتاح النفسي أمام مرآة ذات النصّ ، واختزالها في قبضة الأسئلة ، ومروراً بأقنية البحث عن جدوى سيرورة الذات الشاعرة ، يلمّح بالأجوبة المعقولة والمدركة للحراك الجوفي ، متخذاً الشعور من الإخفاء ، ديناميكية جديدة ، تلعب دورها في تقصّي الحقائق الجوهرية لفعل الكتابة
 
" هنا أو هناك
سأرفع جبهتي مثل كوكب مشاكس
وسأنشد كلّ أغاني الحناجر المسكونة بالشوك والحصى
هنا أو هناك
سأعلن للصحراء ، أن :
خذي رملك ، وارحلي من دمي"(50)
 
     وبعد أن تأنس الإشارة إلى أنها حققت فعلها الكتابي في شقيه المتخيل والواقع ، تبتعد قليلاً عن اجتراح التفاصيل الجديدة ، لتنشأ عملية جديدة ، يتوازى فيها الفعل الشفوي والكتابي
 
" أريد إذن
أن أتلفع بالشعر
والدفء
والصلوات
وأريد أن أخلص من ذاكرتي
وأن أشيخ
كي أجرّ ورائي
صفاً طويلاً من الذكريات "(51)
 
  إلى جانب ذلك تبدأ عتبات النصّ بالإشارة أيضاً إلى التفاصيل أن تأخذ مكانتها في تحرير النصّ ، تحريراً مستنداً على القوى الدافعة لانسحاب الإشارة من المواجه
 
" لمن نكتب الآن ؟
من منا يستحق أن يكتب
ومن فينا يستحق أن يكتب له وفيه"(52)
 
  ولكن هذه الموجهة الجديدة التي يتحتم على التفاصيل أن تخوضها ، هي مواجهة لا شك مع الفعل الكتابي ، فالحقل الإشاري يحتفل بالتفاصيل ، ويقودها إلى تربتها ، أو مجالها الأثيري ، ولكنه يترفّع عن صليل المفردات ، لأن هذا منوط بالتفاصيل ،
 
" عراة نحن يا أبتي
تجلدنا الريح ،
ويقصفنا المطر
نسافر من غير أسماء ،
وبلا عناوين
نعود إلى بيوتنا ، بلا زوجات وبلا بنين
ليس في صدورنا ، سوى هذه التنهدات ،
وتباريح الأسى"(53)

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x