ديوان طقوس الغياب

 

المعنى الإشاري

 

   إن الشرارة الأولى التي يحتاجها النصّ الشعري ، ربما تكون مفردة تتصل مع نفسها ، في أول محاولة انتقائية ، وربما تأتي في وقت لاحق ، ولكنه وقت مأزوم ، تتخلله فيزياء الحركة " السرعة " ، هذه السرعة التي تقتنصها الذات الشاعرة ، للولوج في حضرة النصّ ، ويكون النصّ على أهميته القصوى في بناء العالم الداخلي للغة ، خاضعاً لمعايير هذه الشرارة
 
   ونجد في " طقوس الغياب " ما يعيننا على سبر غور الشرارة الأولى ، امتداداً لإكمال الصورة التي بدأت تتشكل في الوعي القرائي للنصّ الشعري ، ولكن هذا الوجود لا يعني عدم قدرتنا على تلمّس الشرارة في الدواوين السابقة ، ولكن رؤية البحث اقتضت مثل هذا التأخير
 
   تبدأ الشرارة الإشارية من الإقصاء الذي يعمد الشاعر ، على تهيئته للدخول في عالم النصّ ، إذ أن المخاض الشعري يشكّل في بعده الأقصى ، حالة استقرائية لهذه الشرارة ، رغم تهافت المنطلقات التي تؤسس للتصّ ، من حيث بنيته اللغوية
   وكثيراً ما تبدأ الشرارة الأولى من حالة تقصّي لمفردة ما تكون مرتكزاً لجمهرة التداعيات ، التي يفرضها الحقل الدلالي
 
" نهار بطيء
كسحلية في ظهيرة أحلامها
دم باهت
يعبر الجلد مثل مساء عجوز
وأغنية
تتراخى على شفتيّ
مثل ثوب الحداد
وعول تسافر في مضجعي
وتقتات من جسدي ما تشاء
غبار وماء
وأعشاب ظمآى
لذاك الثغاء
فأدخل في بؤرة الظلّ ظلي
أخبئه تحت جفني
حيث الكرى يتوعّد عينيّ بالاحتراق"(92)    
 
    في المران الأول للشرارة الإشارية ، تتداعى المفردات ، لتشكّل جمرة أولى للنصّ ، ومع هذا التداعي ، تبدأ آلية الحقل الدلالي بتحريك مستلزماتها من حيث هو مجرى يسيّر ماء النبع المقطّر الذي ينتجه النبع ، نحو ذلك المنتهى الإجمالي للمستوى الفني ، والذي ينحصر بين النبع ، المجرى ، والمصب
 
" على شاطىء متعب بنوارسه
يجلس القرفصاء
خلفه البحر ، بين يديه شبابيك هذا الفضاء
تحته البحر
مرّ بطيئاً على جثة الشعر
راح يحدّق في حاجبيه
المدى خطوة منه
كيف يخرج من نبضه الآن
وأين ستأخذه الخطوة اللاحقة"(93) 
 
    لا تنطلق الإشارة إلا بعد أن تكون قد استوفت شروطها ، فهي تجلس بين الذاكرة وبين الأصابع ، تفتح قنواتها أمام هذا الكمّ الهائل من المحفّزات اللغوية ، ثم تمرّ على التجربة ، تخضّها ، وتتقدم باتجاه عود الثقاب الذي توفره الحالة الشعرية
 
" قبل أن يتشكّل في دمه اللون
قبل أن يتهيأ للحبّ والصلوات
تمنى _ ولو مرة واحدة _
أن يغني لها ما تعاطى من الوجع المخملي
ويلثم تفاحة
خبّأتها له تحت ذاك القميص"(94)
 
  إن هذا الاستعداد الذهني الذي يوفّره المعنى الإشاري ، لا يتكىء إلا على النصّ ، فهو في أوج تحوّلاته الذهنية ، لا يفارق الذات ،
 
" نهران من حزني
نهران من أرقي
مرّا على أفقي
مرّا على ما صنت من حبق
نهران كنتهما
جمراً على الورق
الكلّ يشبهني
والظلّ من نسقي"(95)
 
    تماماً بوضوح التحوّلات الذهنية ، يقفز المعنى الإشاري من تربته الخاصة ، باتجاه الحقل الإشاري الذي يلمّ شتات هذه التحوّلات ، فهو ومن خلال قوته الدافعة ، يعطي الذات فرصة للولوج إلى الحراك الجوفي الذي ينساق خلف رغبة النصّ وتوهجه
 
" أحبّ فيك
كلّ هذه الحكمة والجنون
أحبّ صمتك الضالع بالإغواء والنداء والفتون
أحبّ هذه الأصابع التي
تشكّل الأشياء من رمادها
وتوقظ الموتى من السكون"(96)
 
     إن هذا الإغواء الذي يفعله المعنى الإشاري في مراحله الأولى ، لهو إغواء مدمّر ، إذا ما لم تسعف الذاكرة ضيافته ، قبل أن يتسيّد الموقف الدلالي ، وهو يقترب من بؤر النصّ المحمول على المغايرة
 
" يا بحر
لا تقرأ كتابك
إن بوحك جارح
وأنا شفيف مثل همسة عاشق
تدنيه ريح
ثم تأخذه الغيوم لحجرها
قبس هناك يشدّني
نجم يضيء القلب
حين يطأطيء الصفصاف هامته"(97)
 
     ويحتلّ هذا المعطى الدلالي للمعنى الإشاري منطقة وسطى ، حيث تأتي اللغة وفق ما يتصل بها من دلالات خاضعة لقوة الإشارة ، وهي تؤسس لفعل شعري مباغت ، ينطلق من المعنى وتقلباته
 
" يحدث حين يصير الحبّ سعالاً
ويفكّ البحر أزرة سترته الزرقاء
أن يتلعثم في الغيم الماء
ويعود الضوء لفضته
وتفرّ من الكتب الأسماء
وتطير عصافير الأنواء
وتبتلع الأشياء
الأشياء "(98)
 
  ويشكّل هذا المعطى الجديد للدلالة المعنوية التي تسيطر على الفعل الإشاري ، مفرزة طاردة للخطاب الشكلي الذي يقتصر وجوده في اللغة فقط
" الفتاة التي حملتني إلى دفئها
ذات أمسية باردة
نخلة
سرّحت شعرها فوق صدري
وأرخت عليّ عراجينها
كي أعبد درباً من الذكريات
وألهو بغزلانها الشاردة"(99)
 
   من هنا لا بدّ للحقل الدلالي أن يتوازن مع المعنى الإشاري ، إذا كان لا بدّ للنصّ ، أن يكون ذاته بعيداً عن مجريات النسخ والتناسخ ، هذا يعني أن تكون الشرارة الأولى حيادية ومرنة وقابلة للانتشار
 
" اليوم أهتف
ألف شكر للذين من الدماثة أشرقوا
وترفقوا
بخطاي إذ نزع الطريق ظلالها
وتدفقوا
في آخر الرمق
علّي أرد إليّ أسمائي
وأردّ مشكاتي إلى زيتونها
وأردّني
سيلاً من الألق
علّي أعود إليّ      
يا مزقي"(100)
 
  وبعد أن يتمّ للإشارة وفعلها ما تريد ، وبعد أن تكون تحصّنت بذاتها ولذاتها ، وتفرغ من حمولتها ، لا يبقى أمامها إلا تعود كما كانت مِزقاً ، ليعيدها الحراك الجوفي إلى خلوتها ، بانتظار شرارة نصية جديدة ، ومقام جديد تؤشّر عليه الدهشة.

إرسال تعليق

حقوق النشر © موقع أحمد الخطيب جميع الحقوق محفوظة
x